التقنيات السردية لرواية مابعد الحداثة
(هل هنالك علاقة بين "رواية ما بعد الحداثة" و"أكلة الماكدونالدز؟")
بهذا العنوان الصادم افتتح أحد الصحفيين الفرنسيين مقالة صغيرة ساخرة ومستفهمة عن الشروط المابعد حداثية التي تحكم الواقع الثقافي والأدبي في العالم، وهو محق من وجهة نظري طالما أن "الاصطفائية" هي درجة صفر من ثقافة عامة معاصرة، وعلى حد تعبير جان فرانسوا ليوتار فإن الإنسان المعاصر محاط "بأفلام الويسترن" ويأكل "الماكدونالدز" ويضع "العطر الباريسي" وهو يعيش في طوكيو، ويتخذ من المعرفة مادة للألعاب التلفزيونية، وبمعنى آخر فإنه يعيش في "عصر التراخي". فإذا كان هذا العصر يسم كل شيء تقريبا فما هي آثاره الحصرية على الأنواع الأدبية، وبعبارة أخرى كيف يمكن للرواية وهي نتاج الحداثة الغربية أن تمثل ثقافيا واجتماعيا وسياسيا الشروط المابعد حداثية لهذا العصر؟
لقد أولت الدراسات العربية الأكاديمية والصحفية عناية بالغة بالمشروع الثقافي والفلسفي المابعد حداثي في أوربا وأميركا، ولكنها ظلت بعيدة عن الميدان الحقيقي لممارسة هذا المشروع داخل الأنواع الأدبية، وفي هذه الدراسة سنحاول إبراز أهم الخصائص المابعد حداثية للرواية، والرواية الفرنسية بشكل خاص، وسنحاول أن نستعرض فكرة المشروع غير المكتمل للحداثة والتي أثرت تأثيرا بالغا على صيغة التفكير المعاصر، والتي تنص على أنه ينبغي المضي قدما بحثا عن أفكار جديدة وأشكال جديدة والتي تنطوي بشكل حصري على أن المجتمع يتجه نحو إكمال نهائي وصيغة نهائية، وبالتالي هل حاولت الرواية المابعد حداثية أن تجسد هذا المفهوم؟ أي هل نحن أزاء شكل نهائي يتجلى في عملية تدمير الشكل الأدبي ولا سيما أن رواية ما بعد الحداثة عادت نحو السطرية التي دمرتها رواية تيار الوعي عند جيمس جويس، وفرجينيا وولف، ووليم فوكنر، والرواية الجديدة كما هي في أعمال ألان روب غريية، وكلود سيمون، وناتالي ساروت والتي أثرت على أكثر نتاج الرواية العربية المعاصرة؟
الحداثة و الما"بعد"-
سجال توظيف المفاهيم
لقد ظهرت عبارة "ما بعد حداثي" عدة مرات في الولايات المتحدة في النصف الأول من القرن العشرين، إلا أنها لم تفرض نفسها حقا إلا في الستينات في فن العمارة أولا، حيث أشرت قطيعة مع النزعة النفعية في التشييد والتصميم العماري والبنائي، ومن ثم ظهرت في الخطاب السيوسيولوجي، وبعد عشرة أعوام اتسعت لتمتد إلى الفنون التشكيلية وإلى النقد الأدبي، والرواية والشعر والمسرحية وإلى سائر الفنون الأدبية، غير أن جميع الذين كتبوا عن تاريخ المصطلح يجمعون بأن مقالة "ما بعد الحداثة الأميركية" التي نشرها هاري بليك في مجلة "تل كل" في العام 1977 هي التي أرست الأصداء المدوية الأولى لهذا المفهوم على الأصعدة الثقافية، فلسفية كانت أم أدبية، ومن ثم أعقبها الروائي الأميركي جون بارت بمقالة" الاختلاف ما بعد الحداثي والتي نشرها في مجلة "Poetique" في العام 1981 ، وقد استندت في نبرتها على مقالة بليك، ولكن الكتاب المفتاح ما بين زمني هاتين المقالتين هو الكتاب الهائل لجان فرانسوا ليوتار والذي حمل عنوان "حالة ما بعد الحداثة" والذي ظهر في العام 1977، وهو تقرير حول المعرفة والثقافة في المجتمعات الأكثر تطورا، وقد كتبه ليوتار بناء على توصية من مجلس جامعات كيبك، في الواقع أثار هذا الكتاب العديد من السجالات والنزاعات الثقافية بين مفكرين من أرجاء شتى في العالم:
("الحداثة مشروع لم يكتمل" ليورغن هابرماس، ثم رد عليه ليوتار في مقالة نشرها في مجلة "critique " بعد عامين تحت عنوان" رد على سؤال: ما معنى ما بعد الحداثة"، فردريك جيمسون في كتاب "مابعد الحداثة والمجتمع الاستهلاكي"، ديفيد هارفي "حالة ما بعد الحديث ، بحث في جذور التغير الاجتماعي" وغيرها الكثير).
لقد فرض ليوتار تدريجيا هذا المصطلح على الجانب الآخر من الأطلسي، والحال هو أن الرواية الجديدة التي جاهد جان ريكاردو إلى تقعيدها باعلان الرواية الجديدة- الجديدة كانت خلال السنوات 70-80 في سبيلها إلى الاختفاء، وقد حاولت بعض الحلقات الدراسية والأكاديمية أن تبرر وجودها بوصفها مشروعا غير منجز، ومع ذلك استقطب هذا السجال مفكرين كثيرين والأهم منهم هو رتشارد رورتي الذي قدم توليفة ممتازة من الأفكار التي تخص ليوتار وهابرماس ونشرت في مجلة "Critique " العدد 442 من العام 1984، وتحت عنوان " هابرماس /ليوتار وما بعد الحداثة"، وبدوره اقتحم هنري ميشونيك المعركة إلى جانب يورغن هابرماس في كتابه الذائع الصيت: "مقالة نقدية: الحداثة/الحداثة" والذي صدر في العام 1988 ، أي في العام ذاته الذي نشرت فيه كراسات الفلسفة عددها الخاص: " مابعد الحداثة حدود الاستخدام" عقب ظهور عددها عن جان فرانسوا ليوتار، وبعد ذلك أصدر كريستيان روبي عرضا شاملا وموثقا على نحو جيد بعنوان: "ميدان معركة ما بعد الحداثة /الحداثة-الجديدة"، وبدوره نشر ألان تورين في العام 1992 كتابه "نقد الحداثة" وهو كتاب في غاية الأهمية على صعيد نقد مشروع الحداثة، ويصب في جهد هابرماس من كون الحداثة مشروعا غير مكتمل، وعلى الصعيد الأدبي الضيق قامت مدرسة أمستردام بمحاولة وضع تعريف وإن بدا مترددا لمابعد الحداثة، وذلك بإعادة نشرها لمقالة كيبدي فارغا "رواية مابعد الحداثة" المنشور في العام 1990 في مجلة أدب، تبعتها مقالتان معمقتان لصوفي بيرتو "الانتظار ما بعدالحداثي:حول الأدب المعاصر في فرنسا" الذي ظهر في العام 1991، و" الزمن وما بعد الحداثة" الذي نشر في العام 1990 في مجلة "أدب". ومن ثم قد صدر كتاب "بديهيات" لماري داريوسك، و"الجزئيات العناصرية" لميشيل هولبيك، وهما نتاجان يجسدان الخصائص والتقنيات التي وسمت كل الكتابات والنصوص التي أطلق عليها فيما بعد نتاجات ما بعد الحداثة، ومن الجدير بالذكر أن كل كتبات كريستان بريجون، وبيرنار نويل، وكلود أوليه، وآخرين تعد امتدادا حقيقيا لهذين العملين، ومتابعة حقيقية لحلم الحداثة الذي بدأه ميشيل هولبيك وماري داريوسك.
ما بعد الحداثة
تقنيات/أفكار/ خصائص
في الواقع إن رواية ما بعد الحداثة هي توصيف ثقافي لسير المجتمع المعاصر، تجسد ردة الفعل أزاء فكرة "أن البشرية تعيش في تطور مستمر" الفكرة التي كانت الحداثة تصر عليها، إنها ترد عبر التقنيات والأفكار التي تطرحها المنظومة السردية الاستاتيكية ذاته بأن عالمنا لا يتجه بالضرورة نحو مجتمع أكثر تطورا، أو يتجه نحو التمام، وهكذا فإن روايات ميشيل هولبيك وأشنوز وداريوسك تقول بشكل عام أن الحاضر لا يشكل بالضرورة تحسينا للماضي، إنها توصيف لما أطلق عليه بودريار ب(انفجار المعنى) ، و)عدم التصديق حيال السرديات الكبرى( عند جان فرانسوا ليوتار، و(أزمة الشرعيات) عند هابرماس، و(فكرة التذرر الإجتماعي) عند ليبوفتسكي، إنه عصر اللايقين بطبيعة الأمر.
ولأكثر من سبب، يقول بوافيه:
" لعب العلم والتكنلوجيا دورا هاما في ظهور المجتمعات الحديثة بيد أن الحماس لهذه الفكرة قد تهاوى، لأن العصر الذهبي الذي وعدنا به لما يزل بعيدا عن البزوغ في الأفق".
ويمكننا أن نلاحظ مع بوافيه ومع ليوتار أن تقنيات الفن قد فسحت المجال للشك، وكان عددا من التيارات الفنية قد تحولت بتقنياتها إلى السواد والصمت، فقد انتسبت هذه التيارات إلى تيار الحداثة، ويشكل الجديد فيها رفضا لكل ما سبقها، فتكمن الأصالة في البحث عن الأشكال الجديدة في التعبير، وقد مضت الطليعية قدما في تدمير كل ما سبق نحو ما هو مستحدث، والحال هي أنه ومنذ الخمسينيات وصل الفن إلى طريق مسدود، وقد تحولت الرواية إلى "بقعة باهتة من السرد المتواصل" وإلى "تفاهات"، وذهب البعض إلى حد "التشكيك بالوظيفة الاجتماعية للفن"، فإن كان للفن على حد قولهم ذلك التأثير الذي نسبناه إليه، فكيف نفسر أن الجنس البشري حتى بعد خضوعه ولأمد طويل إلى سلطته التمدينية ما زال يمارس البربرية؟ وعلى صعيد واسع أيضا، وقد لخص ليبتوفسكي الفن الما بعد حداثي بأنه: "فن دون ادعاء، فن عفوي، حر، على صورة المجتمع النرجسي واللامكترث".
كان على الرواية أن تتغير، طالما أن مجتمع التوفير، ومجتمع العفة، والضمير المهني، وروح التضحية، والجهد، والدقة، والسلطة، والنزعة القومية، والعدالة الاجتماعية، قد تحول إلى مجتمع العفوية، وإنجاز الذات، والمتعة، والدعاية، والإعلان، وإن المناخ العام أخذ يميل شيئا فشيئا نحو الفنتازي، والتراخي، والساخر، واللاذع. إن عبادة العفوية، وثقافة التحليل النفسي، تحفزان الاقتراب من الذات، وإلى التحرر من الأدوار وثقافة ما بعد الحداثة، هي ثقافة الشعور بالتحرر الفردي الممتد إلى جميع الفئات، كما يقول لا بيتوفسكي، وينبغي على كائن ما بعد الحداثة أن يكون هادئا غير متشنج ومرنا، ومسترخ، ومتراخ، إنه قيمة كلية للحضور داخل المجتمع المعاصر، ويقول بوافيه بأن الأنسان ما بعد الحداثي يريد أن تكون له كلمة للتأثير على حياته، ولم يعد الانصهار واردا، فكل فرد يختار التعبير عن نفسه، و يقرر حياته طبقا لمصالحه الخاصة، وكل فرد يريد ترتيب حياته، وإن النزعة النرجسية ستكون الصورة الرمزية الأكثر تعبيرا عن عصرنا.
كان على الرواية أن تنقل تحولات وألعاب المعنى، فإن كانت الحداثة تستسيغ طمس المعنى فإن ما بعد الحداثة تقف أمام هذه التحولات وتلغي الواقع الذي أنتجها، إن ما هو مهم هنا هو ظهور الاستهلاك الجماهيري، والمتعوية المعممة، وقد أنتج مجتمع التقنيات ثقافة تمحورت حول تحقيق الأنا، والتلقائية، والمتعة، وهكذا تحولت المتعوية إلى مبدأ محوري للثقافة الحديثة، وقد أصبح المجتمع الحديث منقسما، لأن النظام التقني تتحكم فيه الفاعلية، وحيز السلطة، والعدالة الاجتماعية تتحكم فيها المساواة، والثقافة تتحكم فيها المتعوية، أما في الرواية فقد أصبحت عملية النفي لا حدود لها، طالما أن الجديد لا يلبث أن يصبح قديما، بيد أن النفي قد فقد قدرته على التجديد، وهكذا شهدنا مرحلة اندحار كامل للخلق والتجديد، فقد أصبح الفن غارقا في القوالب الجاهزة، وهو في حالة تناقض شامل مع الفعالية، إن الفن هو حامل الفردنة الحقيقي، غير أن الطليعة قد فقدت طبيعتها الاستفزازية، ولم تعد قادرة على خلق أي توتر بينها وبين الجمهور أو بينها وبين النقاد، ببساطة ذلك لأنه لم يعد بين الجمهور أو بين النقاد مدافع عن النظام والتقاليد، أما المتعة فقد أصبحت هي القيمة العليا المحمولة من قبل الاستهلاك الجماهيري، لقد أصبحت هي القيمة المركزية للثقافة، وهكذا على الفن أن يعيد الاعتبار إلى المتعة، فالحداثة الفنية قد كفت عن إرباك النظام الاجتماعي، وحلت محلها الثقافة الجماهيرية التي أصبحت هي التي تقود النزاع مع النظام التقني، وهكذا انتقلت الرواية إلى موقع الثقافة الجماهيرية بلغتها وأسلوبها وأحداثها مع تطوير خلاق لأدواتها وتقنياتها كي تلائم هذا التحول.
إن كانت البنيوية تنتمي إلى الحداثة، فإن ما بعد البنيوية هي المعبر حقيقة عن ما بعد الحداثة، وقد فضح دريدا الجوهرانية والمركزية المنطقية التي اصطبغت بها البنيوية، وأصبح رد دريدا على شتراوس الذي محور الكتابة حول الصوت معبرا عن الاختلاف، وهو شكل العصر الجديد، ذلك لأن شتراوس منح الكتابة مفهوما مركزيا بوصفها أبجدية صوتية، في حين وسع دريدا مفهوم الكتابة ليشمل البكتوغرامات والهيروغليفيات والإيدوغرامات والكتابة المسمارية، وفي الغراماتولوجيا التي طرحها دريدا فإن الكتابة لا تنتج إلا انطلاقا من اللعبة الدائمة للدال ولتفاعله واختلافه، وهي القوة التمييزية للكتابة.
وقد طرحت ما بعد البنيوية ستراتيجة كاملة "للما بعد"، فقد ركز هابرماس على عدم استمرارية "الما بعد"، أما نسبة إلى ليوتار فإن "المابعد" هي شكل من أشكال العدمية القائمة على قمع الماضي، في حين طرح فريدريك جيمسون مفهوما أكثر حداثة في مراكمة الفكر والتيهان في التعقيدات، بينما كان ليفس يطالب بمحو العلامات الفارقة ذلك لأنها إنشداد مؤسف نحو الأسفل، وعودة إلى التنميط وإلى الإنتاج الجماهيري الذي ترتكبه الصحافة والإعلان والصناعة السينماتغرافية، وهكذا فإن ما بعد الحداثة هي حركة تحليلية تتماثل مع الموضوعات التي تصفها. أما في مجال الرواية فقد أعاد باختين مواجهة المنظومة الحداثية الابتسارية وذلك بتنظيره للخيال الحواري والكرنفالي واللاتجانس النصي وإعادة الاعتبار للثقافة الشعبية ونهاية اليقينيات فيما يتعلق بالتنظير الثقافي، إن الرواية ما بعد الحداثية ترتكز في صناعتها إلى مسرح الفودفيل، ومسرح الإيماء، والكوميديا الغرائبية أكثر مما تنتمي إلى الرواية الواقعية الكلاسيكية، مثلما أفاد التلفزيون والسينما من رواية الألغاز والرواية البوليسية وروايات الرعب وهو الفن الشعبي الذي يقع بين الميلودراما والبورلسك والمشاهد السحرية والمنوعات والأوبرا الكوميدية والكوميديا الموسيقية. ويرسم بودريار صورة لعصر فصامي حيث الأجساد والأرواح قد طغى عليها حضور الدعاية والتلفزيون، وأصبحت ترفض الاقتراب من الكائنات الحقيقية، فالزائف بات يحل محل الحقيقي، وأصبحنا نحن من مستهلكي نسخ النسخ وصور الصور، ويتبنى بودريار خطابا سرديا حداثيا نموذجيا، وهو موضوعة المدن الكبرى، وعلى الرواية أن تجسد قيم هذه المجتمعات الخارجة عن الخيال المفهومي على حد تعبير بودرديار، أما بالنسبة لدوكر فهي ترديد لقرن من الكتابة الحداثية حول المدينة، أما المدينة نسبة لليوتار فهي تفوق جمالية المجرد، وعلى الرواية هنا أن تتحرر من المفهوم الخطي والتجانس والغائية وتنتهي إلى تدمير أرثوذكسية الفكر النقدي، إنها تحليل الفردنة والمتعة على حد تعبير ليبوفتسكي، وكان على الرواية أن تعكس تآكل الهويات الاجتماعية والإنصراف عن الأيديولوجيا والسياسة وعدم استقرار الشخصية، فمجتمع ما بعد الحداثة نسبة إلى ليبتوفسكي هو مجتمع اللامبالاة الجماهيرية، ومجتمع الشعور بالانسحاق، وأصبح التجدد عاديا، وترتبط عملية الشخصنة بنرجسية الأفراد، والاستقلالية، والالتحاق بالتجمعات الصغيرة، مثل: المدمنين على الكحول، أو المصابين بالتأتأة، وهو أشه بمجتمع الخدمة الذاتية، إنه مجتمع الماكدونالدية على حد تعبير ريتزر، وهو مجتمع يتسم بالنزعة الشاملة نحو الحد من العلاقات السلطوية والزيادة في الخيارات والتعددية.
تجسد رواية ما بعد الحداثة التاريخ وقد سلب معناه، وبالتالي ستنشد شيئا فشيئا نحو عناصر الامتاع: السطرية، التشويق، السخرية. إنه مبدأ اللذة وقد دخل مرحلة جديدة، إنه المعيار الجمالي في الخيارات الاستهلاكية، ويمثل امتدادا لمبدأ اللذة، وليس الولع بالتجارب المحدودة، فهنالك المعلومة لأن الفضول هو واحد من أسس المجتمع ما بعد الحداثي، وعلى الرواية أن تركز على المعلومات التي تخص عالم الأناسة، وعليها أن تتوقف عن الإحاطة بالأسلوب الخاص نحو مفعول تأويلي للمعلومات، وإخراجها من مكانها الحقيقي وإزاحتها، وهنالك الفنطازيا، والأكزوتية، والتقاليد الفلكلورية والشعبية، وإحياء النزعات الإثنية والإقليمية، وبعث الطابع الأثنوغرافي للطوائف والأديان، لقد أنهت الرواية ما بعد الحداثية نقاء اللغة كليا، ولم تعد تحفل بالكتابة الشعرية والبلاغة الكبيرة المنضبطة، وأحلت محلها اللهجات العامية، والكلمات الأجنبية، والواقع اللساني المجزء والمنفصل، والمزاح، والنكتة، والسخرية، وهي الفكرة التي تقوم بإزاحة مركز الغيرية نسبة إلى الذات، وتدمير الهوية المطلقة، كما أنها تفسح المجال إلى الهوية المهجنة، والإجناسية المولدة، وكل ما أشار إليه إسكاربيتا بمفهوم "عدم النقاء" في المجال الأستطيقي.
ومن هنا فإن الرواية ما بعد الحداثية حينما تعارض المعنى الحديث للتاريخ فإنها تتخلى عن مقولة الجديد، ومقولة التطور لصالح إعادة النظر بأشكال الماضي، كما يقول أمبرتو إيكو، وهو إجابة حقيقية على شعور الريبة وعدم اليقين، وأنا هنا أستخدم عنوان رواية "مبدأ عدم اليقين" لميشسيل ريو، والتي جعل منها ليوتار المعيار التحديدي لما بعد الحداثة. ويحدد مارك غونتار فرضيتين عن الرواية ما بعد الحداثية،
أولا: إن تاريخ الرواية الحديثة قد بدأ في القرن السابع عشر، وقد بلغ أوجه مع الرواية الجديدة التي قادت هذا الجنس إلى حدود إغلاقه.
ثانيا: إن لم تشكل الرواية الجديدة مدرسة بالمعنى الحصري للكلمة، فإنه من الممكن عدها ظاهرة طليعية، بكل ما تتسم به الحداثة من طليعية، وهي: إرادة الانقطاع عن التقليد المتحجر، الاهتمام بالتجديد، والتجريب، ونشر النصوص – البيانات ذات الطابع السجالي، ويذكر غونتار بعض عناوين المقالات التي كتبها آلان روب غرييه مثل: "الطريق إلى رواية المستقبل"، "حول بعض المفاهيم البالية"، "رواية جديدة إنسان جديد"، أما فيما يخص ناتالي ساروت فإن دفاعها عن الروائيين الجدد في كتابها "عصر الشك" فإنها تستعير أفكارها الأساسية من خطاب الحداثة ذاته، مثل التجديد، والتحرر، والتطور، وتجاوز كل ما هو مفروض وتقليدي وميت، وكل هذه العبارات هي من قاموس الفكر الحداثي دون شك. وذلك لأنها تؤمن بالأصالة وتحاول أن تصل إلى حدود ماكنة سردية ذات سمة تجريبية و تحديثية، غير أن غونتار يعتقد بأن الرواية الجديدة كانت تزعج عادات القارئ إلى حد أنها لم تفلح أبدا في أن توحد نفسها مع عدد كبير من القراء الدائميين على رغم ما حققته من نجاح نسبي لدى البعض من جمهور المختصين.
التقنيات السردية
في رواية ما بعد الحداثة
طرح أمبرتو إيكو سؤالا مهما وهو: هل يمكن أن تكون هناك رواية لا تنزع إلى الهروب إلى الخيال ورغم ذلك تحتفظ بقدرتها على الإمتاع؟ وقد احتفى أمبرتو إيكو ب"عودة الحبكة" عن طريق الاعجاب بعدد من الصفحات القيمة في أدب دوما، ويعتقد أمبرتو إيكو أن إعادة اكتشاف الحبكة والقدرة على الامتاع أدركها أصحاب نظريات ما بعد الحداثة الأميركيون، وقد حدد توقف الحداثة عند تدمير الشخصية وإلغائها والوصول إلى المجرد وغير الرسمي في الفن، ووصل الأدب إلى صورة تدمير الحوار، والصمت، والصفحة البيضاء، وفي الموسيقى إلى تجاوز اللانغمية وإلى الصخب والصمت المطبق، ويرى إيكو وجوب بعث الماضي من جديد لأنه لا ينبغي تدميره، حيث أن تدميره يؤدي إلى الصمت، وينبغي أن يتسم هذا الإحياء بالسخرية لا بالبراءة، وبوجوب اللغة الشارحة، والميتاسرد، والميتانصية. بل يصل فيدلر إلى الاستفزاز حين يثني على روايات شعبية مثل "الموهيكان الأخير" ويتسائل فيما إذا كان هناك رواية مثل "كوخ العم توم" يمكن قراءتها بنفس الحماس واللهفة في المطبخ وغرفة المعيشة.
في الواقع، هنالك إصرار على الفن الشعبي والأدب الذي يحبه العامة لأنه يخترق الحواجز بين الفن والامتاع، ولكن على أدب ما بعد الحداثة أن يكون مختلفا كليا عن الفن الشعبي في التكنيك والنبرة كما تقول ليندا هاتشيون ، وترى الأخيرة أن ما بعد الحداثة تميل إلى الاستفهام والتعليم، وحددت رواية ما بعد الحداثة بتقنية معينة هي: "الميتاسرد التاريخي" وهكذا فإن هذه الرواية لا تنفي الماضي ولا تحقره، ولكن الروائي يستخدم السخرية والمفارقة لتقرير المسافة النقدية التي يناصب بها العداء لكل ما هو تاريخي.
إن رواية ما بعد الحداثة هي أولا فكر ينبثق من كل ما هو منفصل، ومتغاير عن خصائص رواية الحداثة وتجلياتها في رواية تيار الوعي والرواية الجديدة، كما وإنها لديها خصائصها وتقنياتها السردية الأخرى، مثل: الكولاج، الشذرات، تهجين النص، حيث يعبر الكولاج عن تجربة توافقية، وهي تزامن سرد حدثين أو أكثر في أماكن مختلفة، من غير انتقال، وهذه الوسيلة تعبر اليوم عن تغاير تجربتنا للواقع، حيث يخلق النقل الجوي تجاورا بين الثقافات المختلفة مما يسبب تمثيلا متقطعا، إن هذا الاختزال الزمني الذي تحققه الرحلة في الطائرة يتصاحب مع العولمة الثقافية، وتضاعف المعلومة الثقافية، كما أن ازدياد الوسائل والصور داخل الفضاء الإعلامي أدى إلى ممارسة مابعد حداثية تتمثل في الانتقال السريع في مشاهدة محطات التلفزيون، والتنقل من محطة إلى أخرى، وكأننا نحيا في عالم التراكب والكولاج، حيث أصبح المتقطع وسيلة كونية.
وقد بين ميشيل بوتور بعد أن تخلى عن التجريب الروائي في رواية " المتحرك" كيف تتحلل السردية داخل الكولاج كليا، وقد سعى إلى إعادة إنتاج الأثر الموزائيكي طبقا للصيغة الجدولية، وعبر في هذه الرواية عن التنوع اللامتناه لقارة أميركا الشمالية، وهو نوع من الممارسات الما بعد حداثية للكتابة، ثم دشن بوتور في روايته "المرتدة" شكلا استطيقيا قديما هو "الشذرات" وكممارسة تقنية فإن الشذرات تعود إلى الماضي، إلى العصور القديمة، فإن عبرت عن فوضى العالم لدى فاليري، وامتازت بالقصدية الفنية، فإنها تهتز أمام الرواية الجديدة وتفسح المجال لانزياح القول المأثور من بيان الحقيقة الكلية في حداثة فاليري إلى بيان حقيقة الذاتية المشوشة المنسحرة بالكلام، وتصبح الشذرة عبارة عن ملاحظة تتحرك بالضد من الصيغة السردية، وهي في الوقت ذاته –كما في الظلال الهاربة لباسكال كينيار-ممارسة نصية تمنح الامتياز للانعزالية الجزرية، وإلى التشرذم المتعدد العناصر، ولا تشكل خليطا مؤلفا، إنما هي كتابة شذرانية متقطعة، تدخل متجانسة مع حالة ما بعد الحداثة.
وأسطع دليل على هذه التقنية، هو ما صنعه جورج بيروس في "أوراق متلاصقة"، فقد صنع شذرات متلاصقة تقوم بقلب المجاميع المنظمة والبناءات السردية الكبرى، وهو نوع من التعلق بالاختلال بالضد من فكرة البناء المتجانس والموحد، وبالضد من النص الكلي المشيد على أساس تراتبي في التنظيم، وهي التقنية ذاتها التي استخدمها عبدالكبير الخطيبي في رواية "ملاحظات التودد" فهي شذرات مجمعة من كل متخيل، غير أنها تنشأ من خلال عزلتها وتفرقها، وقد وصفه مارك غونتار بأنه تجل "للفكر الواهن" الذي طرحه جياني فاتيمو، أي بمعنى آخر هو انهيار ميتاسرديات الحداثة، ويمكننا تبين هذه التقنية في أعمال رولاند بارت، وفي "ذكريات باردة" لبودريار، و"صحيفة الخارج" لآرنو، وفي الرواية الفرانكفونية الواقعة بعيدا عن المركز، والمنزاحة بفضل التغاير الألسني، والسمة الثقافية المهجنة، وإن كانت الأداب الفرانكفونية سليلة الكولنيالية آدابا نظالية، إلا أن أشكالها التهديمية تنتمي إلى تطور الثنائية اللغوية، وهي شكل من أشكال ما بعد الكولنيالية، وذلك لاستخدامها الثنائية اللغوية، والتي كشفت داخل الكتابة نوعا من الغيرية والآخرية، وفتحت أمام الرواية الإشكالية المابعد حداثية الوجود المنقطع غير المتصل للهوية الوطنية، إنها رواية متعددة اللسان، متعددة الثقافات، وقد حولت مفهوم الهوية من مفهوم الهوية – الجذر نحو مفهوم الهوية المتحولة والمنشطرة والمتعددة، وقد أصبحت الرواية متعددة العناصر، ومنزاحة عن الثقافة الأصل، كما نجدها في روايات جزر الأنتيل، وروايات المغرب العربي، روايات الطاهر بن جلون الأخيرة، وروايات عبد الكبير الخطيبي، ونصوص عبد الوهاب مؤدب.
بعد توافق مبادئ كتابات المنقطع مع فكر الاختلاف كان هنالك طريق آخر قامت الرواية المعاصرة باستكشافه، هو "الميتانصية".
المقصود بالميتانصية: هي صيغة انعكاسية متميزة، حيث يلجأ كل نص عند كتابته بالتعليق على نفسه، وهي وسيلة قديمة في الواقع تحيلنا إلى شتيرن، وإلى ديدرو، بيد أن استخدامها المكثف الآن جعل منها ظاهرة مميزة للرواية، بل إن "جانيت أم باترسن" حددتها بوصفها إحدى المعايير الأساسية للرواية ما بعد الحداثية، حيث يأخذ الروائي في الغالب صورة الكاتب المنشبك في مشاكل الكتابة، ونجد هذه الخاصية على نحو واضح في روايات ميلان كونديرا وبرنار نويل وجاك ريو ولوران غوتييه، حيث يعمد كونديرا على إبراز العمل السردي بوصفه عملا لعبيا وساخرا بالضد من القصد الأنطولوجي أو الوجودي للكتابة، وعند جاك ريو، فإن الميتانص يتحول إلى وحش يلتهم الرواية برمتها، بل إن السرد في روايته "الأرنطيسة الجميلة" هو عمل ثانوي نسبة إلى التعليق الذي يترجم عن مخيلة عالية، وكتابة تكشف من خلال السخرية والتهكم القواعد الخفية والمشفرة لخطاب لا يملك تأثيرا على الواقع، أما لوران غوتييه فقد أحدث خلخلة حقيقية في روايته الغريبة "ملاحظات تقنية وصيغ استخدام" للميتانصية ذاتها، وذلك من خلال تقليد ساخر لآديولوجيا التطور والتكنلوجيا التي أسستها الحداثة، وبشكل عام فإن توافر الميتانصية على نحو مفرط في رواية مابعد الحداثة يعد اندحارا للفكر على خلفية زيادة المعلومة وتطعيم وسائل التوسط، ومن هنا فإن الرواية الميتانصية تعبر عن فقدان الثقة بالواقع الذي يطالب بإعادة تعريف له، وتعبر عن تحررها من الالتزام بوساطة نوع من التراجع اللعبي والنرجسي .
ومن التقنيات الجديدة التي استخدمتها روايات ما بعد الحداثة في التسعينات هو إعادة السرد، كما يشير إلى ذلك كيبدي فارغا وصوفي بيرتو.
إن إعادة سردية الرواية تتطابق في الأدب مع مراجعة أشكال الماضي، التي نص عليه فن العمارة ما بعد الحداثي (ريكاردو بوفيل..مثلا) وكذلك ما بعد الطلائعيين، مثل شيا، وكليمنت، وهي حسب أمبرتو إيكو إعادة ساخرة، تأخذ في السرد شكل العودة إلى السطرية، وهي إعادة نوع من الراحة في القراءة بالضد من منغصات القراءة في الرواية الجديدة، غير أن هذه السطرية لا تنطوي بالضرورة على عودة إلى وظيفاتية الحبكة، أو إلى تسلسل من نوع واقعي للأحداث، كما هي عند أمبرتو إيكو، فروايات ج.ب.توسان تفضل التتابع على السببية حتى داخل التركيب النحوي للجملة، ولذا فإنه يخلق نوعا من التجاور، على العكس من التتابع، وتحيل السطرية لدى ماري ردونية إلى السببية النمطية للحكاية، التي تكون وظائفها مؤشرة في رواية مثل "روز ميلي روز" التي صدرت في العام 1987، بإثنتي عشرة صورة لحظية "بولاريد"، قامت الراوية ميلي بدسها في كراستها، وهي استعارة كلية وبديلة عن السرد، ويعتقد ماك غونتار بأنها "ملصق الحد الأدنى الذي يؤشر تفاهة الأحداث المعروضة".
إن المراد من إعادة السرد في الرواية ما بعد الحداثية هو محو حقل البديهيات الذي يريد من الشخصيات أن تعطينا الانطباع بأنها تنبثق من نهاية العالم، أو أن الأشياء تقرر طبقا إلى تطورها وتقدمها، وبالتالي يتحول السرد إلى وعي مسرنم للواقع، إن نهاية التاريخ تتوافق مع ما يسميه جيل ليبتوفسكي أفول الواجبات ويتم التعبير عنها بنوع من الصياغة السردية التي يهيمن عليها مبدأ عدم اليقين، كما لو كان الواقع افتراضيا، أو واقع ما بين المحتمل والمشكوك فيه، ومن هنا جاءت بعض الإحالات إلى الميكانيكية الكمية ومفارقاتها، كما في رواية " السيد" لجون فيليب توسان، وقد استخدم ميشيل هولبيك الفيزياء الجزئية للتعبير عن السلوك المشكوك فيه لشخصيات رواياته، وقد أراد من خلال هذا الاستخدام معاينة الانحراف في المجتمع الليبرالي الذي يتمركز في الاضطراب الجنسي والاستهلاكي للمجتمع ما بعد الحداثي، أما ماري داريوسك فقد اختارت في رواية "بديهية" التي صدرت في العام 1998 نوعا من الاستعارة، لتذكر بفقدان المرجع الاخلاقي، والعلاقة المترددة أزاء اضطرابات الواقع الذي يزداد عتمة.
وأخيرا فإن أحد السبل الحالية لإعادة السرد تكمن في التخييل الذاتي الذي يقيم مبدأ الشك، وقانون الغيرية الذي ينبثق في صميم مسألة الذات، بل ينبثق أحيانا حتى في السياق السيروي المقنن بإحكام، وبإمكاننا أن نذكر رواية "أبناء" لسيرج دبروفسكي الذي أبدع في تقنية إعادة السرد، وهنالك أيضا روايات موديانو حول مجازات السيرة الذاتية، وحتى ثلاثية ألان روب غرييه التي ابتعد فيها عن التجريب الروائي القديم، في (المرآة التي تعود/ملائكي أو السحر/وآخر أيام كورنت) والصادرة في العام 1994، ويمكننا أن نعثر بقوة على إعادة السرد في روايات دومنيك فيارت، وكذلك السير المختلقة التي كتبها بيير ميشون وجيرار ماسيه، وهنالك من يعيد كتابة سير الأدباء بشكل خيالي، فقد قام دانييل أوستر بإعادة كتابة سيرة فاليري في رواية تحمل عنوان" الفاصلة" وقد صدرت في العام 1987، وهناك نلتقي بكتاب حقيقيين مثل رامبو وملارميه وأندريه جيد.
فصل من كتاب عن رواية ما بعد الحداثة سيصدر قريبا في بيروت
* مي محمود: كاتبة وأكاديمية عراقية تقيم بين باريس وعمان.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |