من مفهوم العمل الشرعي إلى ساحة العمل العام
(الواجبات العينية والكفائية)
بقلم: د. هبة رؤوف عزت.
يُعَدُّ مفهوم "العمل" أحد المفاهيم القرآنية الأساسية؛ حيث يرتبط في الاستخدام القرآني بمنظومة المفاهيم الإسلامية الأخرى خاصة مفاهيم: الإيمان – التقوى – الاستخلاف – الابتلاء – الشكر، فجعلها له شرطًا من شروط الإسلام، وسببًا في الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، كما ربط به الجزاء، وبنى التفضيل بين العباد والتفاوت في المنزلة والدرجة لديه على العمل لا على الجنس أو النسب.
وقد جعل الله للأفعال الإنسانية أحكامًا في الشريعة، فكان الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين هو "خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبًا أو تخييرًا أو وضعًا، واصطلح الأصوليون على تسمية الحكم المتعلق بفعل المكلف على جهة الطلب أو التخيير بالحكم التكليفي، وعلى تسمية الحكم المتعلق بفعل المكلف على جهة الوضع الحكم الوضعي، فالحكم التكليفي مقصود به طلب فعل المكلف، أو كفُّه عن فعله، أو تخييره بين فعل شيء والكف عنه. وأما الحكم الوضعي فليس مقصودًا به تكليف أو تخيير وإنما المقصود به بيان كون الشيء سببًا أو شرطًا أو مانعًا للحكم. وينقسم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام: الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح. ذلك أنه إذا كان طلب الفعل على وجه الإلزام كان واجبًا، وإن كان اقتضاؤه ليس على وجه التحتيم والإلزام كان مندوبًا، وإذا اقتضى كفًّا عن فعل فإن كان اقتضاؤه ليس على وجه الإلزام كان حرامًا، وإن لم يكن على وجه الإلزام كان مكروهًا، وإذا خير الشارع المكلف بين الفعل والترك كان مباحًا.
وينقسم الواجب من جهة المطالب بأدائه إلى: واجب عيني، وواجب كفائي. فالواجب العيني هو ما طلب الشارع فعله من فرد من الأفراد المكلفين، ولا يجزئ قيام مكلف به عن آخر، أما الواجب الكفائي فهو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين لا من كل فرد منهم بحيث إذا قام به بعض المكلفين فقد أدى الواجب وسقط الإثم والحرج عن الباقي، وإن لم يقم به أي فرد من الأفراد المكلفين أثموا جميعًا بإهمال الواجب.
ويختلف الواجب الكفائي عن الواجب العيني في أن الأول هو ما طلب الشارع حصوله من جماعة المكلفين، لا من كل فرد منهم؛ لأن مقصود الشارع حصوله في الجماعة، أي إيجاد الفعل لا ابتلاء المكلف، فإذا فعله البعض سقط الفرض عن الباقين؛ لأن فِعْلَ البعض يقوم مقام فعل البعض الآخر، فكان التارك بهذا الاعتبار فاعلاً، وإذا لم يقم به أحد أَثِمَ الجميع، فالطلب في هذا الواجب مُنْصَبّ على إيجاد الفعل لا على فاعل معين، أما في الواجب العيني فالمقصود تحصيل الفعل ولكن من المكلف.
ومن أمثلة الواجب الكفائي الجهاد والقضاء والإفتاء والتفقه في الدين وأداء الشهادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيجاد الصناعات والحرف والعلوم التي تحتاجها الأمة وإعداد القوة بأنواعها، ونحو ذلك مما يحقق مصلحة عامة؛ لأن فروض الكفاية تهدف غالبًا إلى مصلحة عامة للأمة.
إنما يأثم الجميع إذا لم يحصل الواجب الكفائي؛ لأنه مطلوب من مجموع الأمة، فالقادر على الفعل عليه أن يفعل، والعاجز عنه عليه أن يحث القادر ويحمله على فعله، فإذا لم يحصل الواجب كان ذلك تقصيرًا من الجميع، من القادر لأنه لم يفعله، ومن العاجز لأنه لم يحمله عليه ويحثُّه.
وإذا تعين فرد لأداء الواجب الكفائي كان واجبًا عينيًّا عليه، وترتبط العينية هنا بالمقصود وتحققه، فإذا لم يتحقق ذلك أضحى فرض عين على من يليه، فالمحك الأساسي لا يكمن بأي حال في الكم، فليس قيام فرد أو فئة بالغرض في حد ذاته كافيًا، بل الكفائية كفائية غرض وقصد لا كفائية كمّ كما صورها بعض الفقهاء، بأن فعل الواحد يسقطها عن الجماعة، فالعبرة بالمقصود.
ويذهب بعض الفقهاء إلى أن القائم بفروض الكفاية له مزيد على القائم بفروض العين لإسقاطه الحرج عن الأمة.
ويدخل العمل السياسي في إطار الواجبات، فهو إما فرض عين كالبيعة العامة والشورى العامة، أو فرض كفاية كالجهاد والولايات العامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذا كان تعريف "السياسة" في علم السياسة الغربي، يرتبط بمفاهيم الشعب والقانون والسلطة والمصلحة العامة والدولة، ويستبطن قيم الصراع والتكييف والحلول الوسط وتحكيم الواقع، فإن مفهوم "السياسة" في الرؤية الإسلامية التوحيدية هو القيام على الشيء بما يصلحه، وهي إصلاح الخَلْق بإرشادهم إلى الطريق المُنَجِّي في الدنيا والآخرة؛ وبذا تتسم بالعموم والشمول وتخاطب – كمفهوم – كل فرد مكلف في رسالة الإسلام بأن يرعى شؤونه ويهتم بأمر المسلمين، ويحكم بما أنزل الله وينصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم، وبذا يرتبط مفهوم السياسة بالتوحيد والاستخلاف والشريعة والمصلحة الشرعية والأمة، ويتكامل العمل السياسي من خلال مفهوم الواجب مع باقي مفاهيم الرؤية الإسلامية مستبطنًا القيم الإسلامية وأبرزها العدل.
ويتميز هذا المفهوم عند استخدامه في التنظير والتحليل السياسي للرؤية الإسلامية مقارناً بمفهوم الحق أو حقوق الإنسان بما يلي:
أولاً: انضباط المفهوم؛ إذ إن ارتباطه بالمفاهيم الشرعية وأحكام الشريعة، وما وضعته من ضوابط وحدود للعمل السياسي وقواعد لقياس المصالح عند تعارضها، وفق ميزان الشريعة وصلتها بالضرورة الشرعية وحدودها وضوابطها وارتباطه بمنظومة المفاهيم الإسلامية الحاكمة يحقق له الاستقرار والانضباط: أصولاً، وطبيعة ومقاصد؛ وبذا يتميز عن مفهوم السياسة الوضعية من ناحية ارتباطه بالمصلحة العامة ونسبية تعريفها وفصله بين السياسة والأخلاق.
ثانيًا: ربط العمل السياسي بالمسؤولية الفردية؛ إذ يُعَدُّ العمل السياسي واجبًا شرعيًّا لا ينفك عنه أحد من الناس، إما على وجه العينية أو على وجه الكفائية، فالعمل السياسي ليس سنة ولا نافلة ولا تطوعًا، بل فريضة تتأسس على مفهوم الاستخلاف الذي هو مصدر الالتزامات الإيجابية والسلبية التي تقع على عاتق المسلم؛ حيث يجب عليه النهوض بأعباء هذه الخلافة حتى يتم له صوغ الحياة الإنسانية على عين هذه الشريعة إعلاء لكلمة الله في الأرض وإخلاصًا لله تعالى في العبودية.
وإذا كان العمل السياسي مسؤولية فردية، فإنه كذلك مسؤولية جماعية تضامنية؛ إذ يجب على الأفراد إعانة القائمين بفروض الكفايات ما تيسر لهم ذلك، وإعانة الدول التي يناط بها القيام ببعض الفروض كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض كفاية تُكلف الأمة بإقامته، فإن أقامته الدولة ـ الذي هو في حقها أوجب ـ سقط عن الفئات الأخرى، وفي حالة تقصيرها يمتد الوجوب إلى الأفراد من الأمة، فالواجب على الأمة مراقبة الحكومة وحملها على القيام بواجباتها الكفائية وتهيئة الأسباب اللازمة لأدائها، فإذا قصرت في ذلك أثمت الأمة؛ لعدم حملها الحكومة على تهيئة ما تقام به فروض الكفايات، وأثمت الحكومة لعدم قيامها بالواجب الكفائي مع القدرة، فبناء على الوحدة بين الفرد وأمته والمستمدة من معنى التوحيد فإن لكل أمة حسابًا جماعيًّا عند الله إلى جانب الحساب الفردي لكل إنسان، مما يجعل مسؤولية الأمة تقع على عاتق كل فرد من أبنائها، وشعور كل فرد بأنه محاسب على أمته وسلوكها وأوضاعها كما يحاسب عن نفسه، يضبط غاية الاستخلاف ويحافظ على استمرارها ويربطها بالعبادة والتوحيد، ولا يخضعها للمصلحة الجماعية أو الفردية المنقطعة عن المصلحة الشرعية، ويحقق الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
ويختلف مفهوم "الواجب" عن مفهوم "الحق" في هذا السياق؛ حيث إن الأخير قد يمكن التنازل عنه أو عدم استخدامه، وهو ما يؤدي إلى عدم المشاركة والسلبية السياسية التي تصبح في لحظات الضعف الحضاري وعدم تحكيم شرع الله خيانة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمفهوم الواجب بما يتضمنه من قيم الأمانة والمسؤولية يختلف عن مفهوم الحق في الفلسفة الوضعية. وإذا كانت الأدبيات السياسية تستخدم مفهوم الحق رغم ما سبق ذكره من تحفظات عليه، فإن الواقع يبرز مشكلة ما يمكن أن نطلق عليه "التعسف السلبي في استخدامه الحق" بإعراض الأفراد عن المشاركة السياسية في كثير من الدول الإسلامية في ظل حكومات تعاني من أزمة الشرعية؛ لذا فإن مفهوم الواجب لا يعبِّر عن رؤية إسلامية نظرية بل يصلح أساسًا حركيًّا تعبويًّا لنهضة تنموية وحضارية.
ثالثًا: درجة "الديناميكية" العالية التي يتمتع بها المفهوم، حيث إن الواجبات الكفائية قد تصبح واجبات عينية كما في الجهاد "فإذا لم يحصل المقصود بالمكلف صار فرضًا عينيًّا على كل مكلف"، وهو ما يميزه عن مفهوم إن الأحكام الشرعية قد تتغير درجاتها عند الضرورة، فيصبح الحرام واجبًا، كما في هجرة الدور بأبعاده "الستاتيكية"، بل المرأة بمفردها من دار الكفر؛ وبذا يدخل الواقع مع المصلحة الشرعية في تحديد درجة الحكم وفق الفتوى الشرعية.
كذلك يرتبط مفهوم الواجب في بعده الديناميكي بالقدرة، فالحكم التكليفي لا بد أن يكون في مقدور المكلف واستطاعته؛ إذ لا تكليف إلا بمقدور، و(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، وهو ما يتلافى إشكالية صراع الأدوار في نظرية الدور.
رابعًا: تركيبية المفهوم؛ إذ إنه ليس مفهومًا اختزاليًّا جامعًا بلا تحديد، بل يميز المفهوم بين الأفراد، وقدراتهم، فطلب الكفاية من جهة الطلب الكلي متوجه للجميع، إذا قام به البعض سقط عن الجميع، أما من الناحية الجزئية ففيه تفصيل وينقسم أقسامًا بل ربما يتشعب، ولكن الضابط له أن الطلب وارد على البعض، وبالتحديد على من كان فيه أهليته الواجب المطلوب لا على الجميع عمومًا؛ وبذا تتم التفرقة بين الفئات المختلفة كلٌّ وفق أهليته، مع ما ذكرناه من عدم خلو أحد من واجب من الواجبات، ومع الأخذ في الاعتبار "القدرة"، أي إمكانية تحصيل شروط الأهلية؛ لأنها كسبية في أغلب الأحوال، وبذلك يصبح التساؤل مثلاً في بحث مسألة المرأة والعمل السياسي هو: "أي امرأة؟"، لا تعميم الأحكام بالحديث عن "المرأة" استبعادًا من الخطاب التكليفي أو إلزامًا به، وهو ما يتلافي بدوره النظرة التنميطية الغربية للفئات الاجتماعية المختلفة .
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |