الأهلية السياسية للمرأة وصلاحيتها للولايات العامة
يعد مجال دراسات المرأة من المجالات الحديثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ إذ أدى الاهتمام المتزايد بدراسة قضايا المرأة إلى تراكم الدراسات المختلفة ثم انفصالها عن العلوم الأم وتأسيس هذا المجال البحثي المستقل الذي أصبحت له اقتراباته ومفاهيمه المتميزة، وقد أدى تداخل العلوم في الدراسات الاجتماعية الغربية إلى أن أصبح موضوع المرأة والسياسة موضوعًا مشتركًا بين العلوم السياسية ودراسات المرأة.
وتبحث الدراسة التالية في موضوع العمل السياسي للمرأة في التصور الإسلامي فتحدد الإطار المعرفي والمبادئ التي تحكم هذا التصور وتميزه، وتتناول بالتحليل النقاط التالية:
مــقدمــة: توضح منهاجية الدراسة
** الأهلية السياسية
(1) تعريفها وأقسامها
(2) الآراء الفقهية في أهلية المرأة
(3) أخطاء منهجية في المعالجة الفقهية لقضية الأهلية
** الولايات العامة
(1) تعريفها ومفهومها
(2) سماتها
(3) الخلاف حول أهلية المرأة للولايات العامة وأدلته الشرعية:
أولاً:النص القرآني
ثانياً: السنة النبوية (القولية/ الفعلية)
ثالثاً: الإجماع
رابعاً: المصلحة (مصلحة الأمة/ مصلحة الأسرة)
خامساً: سد الذرائع
يعد مجال دراسات المرأة من المجالات الحديثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ إذ أدى الاهتمام المتزايد بدراسة قضايا المرأة إلى تراكم الدراسات المختلفة، ثم انفصالها عن العلوم الأم وتأسيس هذا المجال البحثي المستقل الذي أصبحت له اقتراباته ومفاهيمه المتميزة، وقد أدى تداخل العلوم في الدراسات الاجتماعية الغربية إلى أن أصبح موضوع المرأة والسياسة موضوعًا مشتركًا بين العلوم السياسية ودراسات المرأة.
وتبحث الدراسة التالية في موضوع العمل السياسي للمرأة في التصور الإسلامي فتحدد الإطار المعرفي والمبادئ التي تحكم هذا التصور وتميّزه، وتتناول بالتحليل الرؤية الإسلامية لعمل المرأة في دائرة الأمة التي تشارك في فعاليتها بحكم كونها فرداً من أفرادها، وتهدف الدراسة إلى بناء تصور للعمل السياسي للمرأة من منظور إسلامي من خلال:
1- الربط بين ثلاثة مجالات، هي علم السياسة ودراسات المرأة والدراسات الإسلامية؛ حيث تصوغ خطاباً إسلاميًا يحتوي هذه المجالات الثلاث.
2 - إضافة عناصر وأبعاد جديدة تغيب عن التحليل السائد للدراسات في هذه المجالات الثلاثة، عبر طرح نموذج تجديدي.
وتتميز منهاجية الدراسة بعدة سمات أبرزها:
1 - الأصولية: التي تعني قيام هذا المنهج على ربط العقل بالوحي، قرآنًا وسنة، وتحاول المشاركة في صياغة "فقه سياسي" يرتكز من ناحية على فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، كما يرتكز من ناحية أخرى على فقه الأولويات، وينبني على فهم للواقع وإدراك لمقاصد الشارع معتمدًا في ذلك على قواعد علم أصول الفقه، بما يكفل ربط السياسة كعلم اجتماعي إسلامي بالعلوم الشرعية، وبما يضمن تكامل العقل والوحي في المنهاجية الإسلامية ويحقق الأصولية، وهي منهاجية تتبناها الباحثة في دراسات مختلفة حول الشورى والحرية، ودراسة المرأة هنا مجرد مثال وموضوع من ضمن اهتمامات أوسع.
2- الاستقامة: وتعني تقويم الواقع وفق الرؤية المثالية الإسلامية، وهو ما يربط الاستقامة من خلال البعد القيمي بنفع الناس، فالعلم وظيفة اجتماعية هدفها الإصلاح.
3 - الشـمول: لا تتناول الدراسة فقط مسئولية المرأة وطبيعة حركتها استنادًا للدراسات النظرية السابقة في هذا المجال أو ذاك، بل تعيد النظر في بعض المسلَّمات السائدة في الدراسات السياسية الشرعية الإسلامية وكلياتها النظرية.
وتسعى الدراسة إلى إثبات أن الرؤية الإسلامية تتأسس فيها مسئولية أفراد الأمة - رجالاً ونساءً - على تحقيق مقاصد الشارع، وتغيب فيها فكرة "تقسيم العمل الاجتماعي" بمعنى اختصاص المرأة بالأدوار الاجتماعية والرجل بالأدوار السياسية، بل ترى أن هناك تداخلاً في الأدوار وتفاوتًا في مساحتها في حياة الأمة والظروف التاريخية للجماعة بشكل مركب لا يقع في المساواة الميكانيكية الغربية، وأيضًا لا يفصل بين عالم النساء والرجال، بل ينطلق من تداخل الدوائر وتكامل الأدوار والمسئوليات.
وتقسَّم الدراسة إلى قسمين:
الأول: يدرس قضية أهلية المرأة، من حيث أهلية الوجوب وأهلية الأداء، ويناقش قضية النقص في الأهلية المرتبطة بكلا النوعين من الأهلية.
والثاني: يناقش الآراء المختلفة حول مدى أهلية المرأة لتولي الولايات العامة مستشهدًا بمجموعة من الأدلة الشرعية حول هذا الموضوع ومناقشًا للفقه السائد.
وتنتهي الدراسـة: إلى أن قضية المرأة هي إحدى الموضوعات التي تحكمها المنهاجية الأصولية، والتي تربطه بقضايا الفكر الإسلامي الأخرى، وبالتالي فإن قضية العمل السياسي للمرأة لا تنفصل عن قضية التجديد في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، حيث إن الانطلاق في سبيل خروج الأمة الإسلامية من حالة السقوط الحضاري التي تمرّ بها لن يتم إلا بمشاركة المرأة الفعالة في جهود الاجتهاد والتجديد، ثم جهود الإصلاح والتنمية، وهي المشاركة التي تحتاج إلى فقه التجديد للواقع وآليات تغييره وإدراك المرأة لمسئولياتها في هذا التغيير.
الأهلية هي الصلاحية، فشرط صحة التكليف بالواجبات الشرعية التي يندرج تحتها العمل السياسي هو كون المكلف أهلاً لما يكلف به، وقد عرّفها الأصوليون: بأنها صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه، ولصدور الأفعال منه على وجه يعتدّ به شرعًا، وقسّموها إلى أهلية وجوب وأهلية أداء.
أ - أما أهلية الوجوب، فهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه، وهي قسمان: ناقصة وكاملة.
فأهلية الوجوب الناقصة هي: صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق له فقط، كاستحقاق الجنين للإرث.
وأهلية الوجوب الكاملة هي: صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه، وهي تثبت للإنسان من ولادته إلى موته.
ب - وأما أهلية الأداء، فهي صلاحية الإنسان لأن تصدر منه أفعال يعتدّ بها شرعًا، وهي أيضًا قسمان: ناقصة وكاملة.
فأهلية الأداء الناقصة هي:صلاحية صدور بعض الأفعال دون بعض، أو صدور أفعال يتوقف الاعتداد بها على رأي من هو أكمل منه عقلاً وأعلم بوجوه النفع والضرر، كحال الصبي المميز في العقود المالية.
وأهلية الأداء الكاملة هي:صلاحية الإنسان لصدور الأفعال منه مع الاعتداد بها شرعًا وعدم توقّفها على رأي غيره، وهي الأهلية الثابتة للبالغ الراشد، وهي مناط التكاليف الشرعية وتوجه الخطاب من الشارع .
وقد لقي مفهوم الأهلية اهتمامًا في الكتابات الفقهية والقانون المدني، وتستخدمها الدراسة في سياق آخر هو العمل السياسي؛ أي أننا نبحث ما يمكننا تسميته "الأهلية السياسية"، أي أهلية المرأة لممارسة الأنشطة السياسية في المجتمع الإسلامي.
الآراء الفقهية في أهلية المرأة :
إذا كان الفقهاء قد أقرّوا بأهلية المرأة أهلية "كاملة" في الولاية الذاتية والمتعدية على الأموال، والولاية المتعدية على الغير كالحضانة والوصاية؛ أي: الأمور المدنية مع خلاف بينهم في بعض الجزئيات فإن معظمهم قد تحفظ على أهليتها لممارسة العمل السياسي بمستوياته المختلفة، وكأنهم يرونها في هذه الحال ناقصة الأهلية.
وقد استند كثير من هؤلاء إلى حديث رسول الله: "يا معشرَ النّساءِ، تصَدَّقْنَ فإنني أريتكن أكثر أهل النَارِ، فقلن: وبمَ يا رسولَ الله؟ قال: تُكثرْنَ اللَعنّ وتكفرنَ العشير، ما رأيت من ناقصاتِ عقل ودين أذهب لِلُبّ الرَجل الحازم من إحداكُن، قلن: وما نقصانُ ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادةُ المرأةِ مثلَ نصفِ شهادةِ الرّجل؟ قلن: بلى. قال فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضَتْ لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دِينها"، فتحدّث البعضُ عمّا طبع عليه النساء من "نقص واعوجاج في أخلاقهن وميلهن إلى اتّباع الهوى، في مقابل التفوّق الطبيعي في استعداد الرجال ونهوضهم بأعباء المجتمع"، واعتبروا النقص صفة قرينة بأنوثة المرأة، وهو الأمر الذي أدّى في نظرهم إلى "تخفيف الشرع بعدم تكليفهن بكثير مما يجب على الرجال كالجماعة والجُمع والجهاد والجزية".
أخطاء منهجية في المعالجة الفقهية لقضية الأهلية :
ويلاحظ أن هذه الآراء لم تفرّق بين المستويات المختلفة للأهلية السياسية:
- فهناك أهلية عامة لكافة المسلمين في الواجبات العينية، كالبيعة العامة والشورى العامة، وهي الأهلية التي ترتبط بالممارسة السياسية اليومية والعامة للناس كافة، وتبنى عليها مسئولية الأفراد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن الحقوق ومراقبة ميزان العدل في الجماعة وحفظ المقاصد الشرعية.
- وهناك أهلية عامة وخاصة في الوقت ذاته، كالواجبات الكفائية التي قد تصبح في ظروف معينة واجبات عينية كالجهاد، وهي وإن كانت أهلية عامة إلا أنها تحتاج إعدادًا وتدريبًا لرفع كفاءة العامة من الناس، ولذا تسمى عامة وخاصة في آن واحد.
- وهناك أهلية خاصة بالواجبات الكفائية كالولايات، وهي تستلزم قدرة فطرية، كما أن لها جوانب كسبية تأهيلية مرتبطة بالدراسة والخبرة والممارسة، ولا تنطبق على أي أحد .
وارتبط بهذا السياق عدم التفرقة بين مستويات نقص العقل، فهناك نقص فطري ونقص نوعي:
- أمّا النقص الفطري فهو نقص العقل أو الذكاء بدرجات متفاوتة قد تبدأ بالسفه وتنتهي بالجنون، وهي من عوارض الأهلية ، ولا يدخل فيه النساء؛ إذ يتحملن التكليف الشرعي والمسئولية الجنائية والمدنية ومسئولية تولي الولايات العامة.
- وأمّا النقص النوعي فهو نقص قد يكون عرضيًا يطرأ على الفطرة مؤقتًا كما في دورة الحيض أو النفاس أو بعض فترات الحمل وهو لا يخلُّ بالأهلية ، وقد يكون نقصًا عرضيًا طويل الأجل يطرأ على الفطرة نتيجة ظروف معيشية خاصة كالانشغال بالحمل والولادة والرضاعة، مع الانحصار بين جدران البيت حتى لا تكاد المرأة تغادره، والانقطاع التام عن العالم الخارجي مما يؤدّي إلى قلّة الوعي بمجالات الحياة وضعف الإدراك لقضايا المال وغيرها، وهو النقص الذي يمكن تداركه باستثارة الوعي، ويصعب تصوره كاملاً في ظلّ تطور أجهزة الأعلام ووسائل الاتصال، كما أنه لا يتّسق في مداه الأقصى مع ما تقوم به المرأة المسلمة من حركة اجتماعية كصلة الرحم وشهود الصلوات الجامعة والعيدين، وهي الحركة التي توفّر الحدّ الأدنى اللازم من الوعي المرتبط بالأهلية العامة .
"النقص" في الحديث الشريف إذن ليس نقصًا فطريًا لازمًا، بل هو مرتبط ببعض الواجبات ذات الصلة بالأهلية "العامة/ الخاصّة" و "الأهلية الخاصة"، ولا يتعارض مع وجود نساء وهبهنَّ الله قدرات عالية في مجالات ينقص فيها مستوى عامة النساء بل وعامة الرجال، بل قد يكن أفضل فيها من الرجال، لأنّ الأمر منوط بالأهلية ذات العناصر الكسبية والأهلية الخاصة.
والجدير بالتأمل أنّ الحديث قد حدد نقص العقل بالشهادة التي يشهد فيها رجل وامرأتان، وهي الشهادة التي حدّدها القرآن في آية الدَّين في سورة البقرة، أمّا باقي الشهادات فقد اشترط فيها القرآن العدالة ولم يشترط الرجولة، وإن تفاوت العدد المطلوب من شهادة لأخرى، وهي العدالة المرتبطة بالعقيدة والرابطة الإيمانية. "منكم"، وهو اللفظ الذي تدخل فيه النساء لعموم الخطاب القرآني، ومن التضييق أن يتعلل بآية الدّين للطعن في ذاتية المرأة ورميها بالنقص العقلي الفطري؛ إذ أَنّ هذه الآية إرشادية لحفظ الحقوق من الضياع، ويرشد فيها عند تعذّر وجود الرجال إلى استشهاد امرأتين مع رجل واحد، والمرأة هنا قد تكون من العوام اللاتي لا خبرة لهن بمثل هذه الأمور المالية، كما قد تكون خاضعة لعارض مؤقت من عوارض الأهلية كالحيض أو النفاس، ولذا لزم الاحتياط لشهادتها فيما ليس من شأنها أن تحضره غالبًا ، أمّا بقية الشهادات فتتفاوت؛ منها الشهادات الكفائية التي يشترط فيها العدالة، فوجود المرأة المستوفية لشروطها فيها كشهادة الرجل كالشهادة على الوصية، كما قد تكون شهادات عينية لازمة كالشهادة في الحدود، وهنا يلزم المرأة الشهادة ويفترض فيها الأهلية العامة لفجأة حدوثها، لذا كان استخدام لفظ "منكم" عامّا في القرآن.
وقد أدى غياب هذه التفرقة إلى اختلاف العلماء في أمر شهادة المرأة اختلافًا واضحًا ، في حين أنه لو كان النقص العقلي في الحديث نقصًا فطريًا لكانت تعدية الثنائية المشروطة في الآية القرآنية واجبة في كلّ ما يثبت عن طريق امرأة حتى الولادة والبكارة وما يعدّ من شأن النساء، وهو ما قبِلَ العلماءُ شهادتها فيه منفردة بلا خلاف، ولَما قُبِلت شهادتها في شأن اللِّعان مع الرجل.
ويلاحظ أنه برغم اختلاف العلماء بشأن الشهادة فإنهم قد أجمعوا على قبول رواية المرأة ، وقد استدركت السيدة عائشة على الصحابة فحفظت عن رسول الله ما نسيه بعضهم ، كما شهد مجال رواية الحديث العديد من المحدِّثات؛ سواء كنّ صحابيات أم تابعيات .
وإذا كان البعض قد أرجع هذه التفرقة بين الرواية والشهادة إلى أن "الرواية تقع فيها المشاركة غالبًا فيروي مع المرأة غيرها ويظهر مع طول السنين أي خلل، بخلاف الشهادة التي ينقضي زمانها فلا يطلع على الغلط أحد لذا لزم التحوط" ، فإن آخرين رأوا العدالة لازمة في الشهادة والرواية على حدّ سواء؛ إذ "الضرورة تدعو لحفظ الشريعة في نقلها وصونها عن الكذب، وكذلك الفتوى" ،، مما يثير تساؤلاً: كيف تقبل رواية المرأة للحديث إذا كانت مجبولة على النقص فتضيع الشريعة، ولا تقبل شهادتها في الحوادث العارضة؟
ويُعَد قبول الرسول -صلى الله عليه وسلم - لإجارة (أمان) المرأة أحد الأدلّة على الأهلية السياسية؛ إذ أجارت المرأة على عهده الكافر في دار الإسلام، ولو كانت المرأة ناقصة الأهلية لما وثق في تقديرها، ولما أجيزت تصرفات لها متعلّقة بمصلحة الأُمّة. وقد أجاز الجمهور أمان المرأة، في حين ذهب البعض إلى أنه موقوف على إذن الإمام، وأنه جاز لأن رسول الله أجازه لا لصحته في ذاته، رغم تكرر حوادث الإجارة التي أجازها رسولُ الله أكثر من مرة ، فهو لم يردّ أمان امرأة قط، فإن قيل: إنّ إجارة الإمام لازمة فهي في الواقع لازمة للرجال أيضًا كي لا تتعارض مع المصلحة.
ويلاحظ أن الاختلاف هنا راجع لاختلاف الآراء في أهلية المرأة، فمن رأى نقص المرأة ذهب إلى عدم جواز أمانها، ومن قاسها على الرجل ولم يرَ بينهما فرقًا ذهب إلى جوازه . وبدلاً من أن تكون إجازة رسول الله لأمان المرأة دليلاً من أدلة أهليتها أضحت الآراء المختلفة في أهليتها دليلاً على جواز الإجارة من عدمه، مما جعل الفقه حجّة على السُّنّة لا العكس، وهو ما يناقض أوليات المنهج الأصولي، وهو ما يعزز الرأي الذي نتبناه وهو أن المرأة تتمتع بالأهلية السياسية التي يشترط توافرها لمن يتولى الولايات العامة.
إن استيعاب مسألة الأهلية السياسية للمرأة لا يتمّ كما ذكرنا إلا بضبط المسألة من خلال أنواع الأهلية وفئات النساء وطبيعة التكاليف الشرعية، وهو ما يجعل تحديد: أي امرأة؟ وفي أي مجال؟ هو مفتاح فهم الأحكام وتنزيلها، وهو ما تتناوله الدراسة من خلال دراسة كلّ فعالية سياسية على مستوى الأُمة ومجال المرأة فيها.
تعريف الولاية العامة ومفهومها :
لم تورد كتب السياسة الشرعية ولا كتب الفقه معنى محدّداً للولاية العامة، رغم تناولها للولايات عامّها وخاصّها، وقد عرّفتها بعض الكتابات الحديثة بأنها: "سلطة تعطيها الشريعة لشخص أهل لها تجعله قادرًا على إنشاء العقود والتصرفات، نافذة من غير توقّف على إجازة أحد" ، في حين رأتْ كتابات أُخرى أنها: "السلطة الملزِمة في شأن من شئون الجماعة كولاية سَنّ القوانين والفصل في الخصومات وتنفيذ الأحكام والهيمنة على القائمين بذلك"، وهو ما يميزها عن الولاية الخاصة التي هي: "سلطة يملك بها صاحبها التصرّف في شأن من الشئون الخاصة بغيره كالولاية على الصغار والأموال والأوقاف وغيرها" .
ويختلف مفهوم الولاية عن مفهوم "الوظيفة"؛ حيث إن الولاية سلطة شرعية تستمدّ قوّتها من الشرع، ولا يتدخّل في زوالها هوى أو غرض، بل يحدّدها الشرع بحدود واضحة وما اختُلِفَ فيه يُرَدّ لله ورسوله، أما الوظيفة فتستمد قوّتها من الدولة ذات السيادة العامة، وعليه فإن متولّيها مقيّد بالتزام ما تضعه له الدولة من أُطُر وقوانين، ويخضع زوالها لهذه القوانين أو للمصلحة العامة أو لهوى موليها .
سمات الولايات العامة والولايات العامة كالولاية الكبرى (الخلافة) والقضاء والحسبة وولاية الشورى وغيرها تدخل جميعًا في الواجبات الكفائية ، وتتّسم بالسِّمات التالية:
(1) أمانة ومسئولية:
- إنها ليست منصبًا يُسعى إليه، بل هي أمانة ومسئولية كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لأحد صحابته: "لا تَسأل الإمارة فإنك إن أُوتِيتَها عن مسألة وكلت إليها، وإنْ أُوتيتها من غير مسألة أُعِنْتَ عليها" ، كما قال -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر حين قال له: "يا رسولَ الله ألا تستعملني؟"، فضرب بيده على منكبيه، ثم قال: "يا أبا ذر.. إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا مَن أَخَذَها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها" .
(2) مرتبطة بالأهلية الخاصة:
إن الولاية يشترط فيها - بحكم كونها من الواجبات الكفائية - الأهلية الخاصة كما سبق توضيحها في أنواع الأهلية، والتي وصفها ابن تيمية بأنها تقوم على قاعدتين: القوة، والأمانة، "فالقوة في كل ولاية بحسبها"، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي عليه الكتاب والسنُّة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام، والأمانة ترجع إلى خشية الله، فإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشدّ قُدِّم الأمين، وإن كانت الحاجة للقوة والأمانة جمع بين المصلحتين، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم برجل واحد جمع بين عدد، فلا بد من ترجيح الأصل أو تعدد المُولى إذا لم تقع الكفائية بواحد تام. والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية ومعرفة طريق المقصود، فإن عرفت المقاصد والوسائل تمّ الأمر فالأمر منوط بالأهلية، لذا فإنه لا يرتبط برغبة الفرد بل بقدرته، ولا يولى من سأله أو حرص عليه .
(3) ملتزمة بالشريعة وأحكامها:
إن أولياء الأمور ملزمون بالشريعة وأحكامها، ويجب صدور القرارات التي تتصل بأداء النظام العام وقواعده والمعاملات المختلفة من خلال آليات الشورى، وترتبط طاعتهم بمقدار التزامهم بالشرع ؛ إذ لا طاعة في معصية الله، "إنّما الطاعةُ في المعروف" . و"إذا قضى الحاكمُ بجورٍ أو بخلافِ أهل العلم فهو ردّ" .
الخلاف حول أهلية المرأة للولايات العامة وأدلته الشرعية:
وقد اختلفت الآراء بشأن أهلية المرأة للولايات العامة، فذهب فريق إلى عدم أهليتها لتولّي الولايات العامة كافة ، وأجاز فريق ثـانٍ تـوليها الولايات العامة مـا عـدا الخلافـة، في حين قَصَرَ فريق ثالث أهليتها على ولاية القضاء فيما تشهد فيه على مذهبهم . وتبيّن قراءة الكتابات المختلفة في هذا الصدد أن الخلاف يدور حول مجموعة من الأدلة الشرعية هي:
أولاً: النص القرآني:
ثار الخلاف حول الآية الكريمة: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) (النساء)، فرأى فريق أنها دليل على أن القوامة محصورة في الرجال دون النساء، لما للرجال من فضل التدبير والرأي وزيادة القوة في النفس والطبع، ولغلبة اللين والضعف على النساء. وما دام الرجل قوّامًا على المرأة فلا يجوز أن تتولى ولاية عامة تجعلها صاحبة سلطة وقوامة عليه أو حتى مشاركة له في القوامة. فالنص صريح - في رأيهم - بأن القوامة للرجال دون النساء، ويرون أنه حتى لو تمّ التسليم جدلاً بأن الآية خاصة بالمسئولية في الأسْرة وليست عامة فالحجّة تبقى قائمة، فإذا كانت المرأة عاجزة عن إدارة أُسرتها فمن باب أولى أن تكون عاجزةً عن إدارة شئون الناس والفصل في أمورهم .
وقد ذهب فريق آخر إلى أن العلاقة بين الرجال والنساء في الأمور العامة هي علاقة "ولاية"، وأن ذكر الدرجة والقوامة في القرآن لم يأتِ إلا في سياق الحديث عن الحياة الزوجية التي يلزم في إدارتها انتهاء سُلم المسئولية للرجل ، مع ملاحظة أن صرفه عن النساء في الأسرة ليس دليل عدم أهليّة أو عجز بل هو تقديم للأصلح، فإن غاب الرجل فالمرأة تتولّى أمور بيتها وتصبح مسئولة ووصية على شئونه وشئون أولادها ، ولا مجال هنا لتعدية الحكم إلى الولايات العامة التي مناطها الأهلية الخاصة بتعريفها السالف، وهو الرأي الذي يتّسق مع الإطار المعرفي ومدخل الاستخلاف الذي يشمل النساء والرجال ويتحمل أمانته المؤمنون والمؤمنات في ظل علاقة الولاية مصداقًا لقول الله تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ" [التوبة:71].
ثانيًا: السُّنّة النبوية
- السُّنّة القولية:
حيث اختلفت الآراء بشأن الحديث النبوي الذي رواه البخاري عن أبي بكرة، قال: "لمَا بَلَغَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ فارسًا مَلّكُوا ابنةَ كِسْرى قال : لن يُفْلِحَ قومٌ وَلَّوْا أمْرَهُم امرأةً" . - فذهب فريق إلى أنه يشمل كلَّ النساء في كلّ الولايات . - ورأى فريق آخر أنه خاص بالخلافة دون غيرها من الولايات . - وأنكر بعض المعاصرين صحّة الحديث بالكلّية، فوصفوه بأنه موضوع ومنسوب كذبًا إلى الرسول، ودفع فريق منهم بأنه حتى لو ثبتت صحته فإنه حديث أحاد أي ذو صبغة ظنّية، وبذا لا يؤخذ به في الأمور الدستورية . ويلاحظ أن الفريق الأول لم يردّ الحديث إلى ما ورد في هذا الشأن من الآيات القرآنية، كما أنه لم يربطه بباقي الأحاديث النبوية المرتبطة به ولا بكلّيات الشريعة، وأن الفريق الثاني فعل نفس الشيء غير أنه خصّصه ولم يربطه بالأهلية . أما الفريق الأخير فقد ردّ صحيح السُّنّة وأهمل العمل بالأحاد وهي قضية لا يمكن تمريرها بسهولة عند محاولة صياغة رؤية إسلامية صحيحة .
ونلاحظ على الحديث النبوي ما يلي:
- أنه لا بدّ أن يفهم في ضوء الأحاديث الواردة في السُّنّة عن فارس وكسرى، حيث إنه ورد في سياق حادثة معيّنة هي أن فارسًا ملّكوا عليهم ابنة كسرى، ويذكر ابن حجر العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري أن الحديث تتمة لقصة كسرى الذي مزّق كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلّط عليه ابنه فقتله، ثم قتل إخوته، فلما مات مسمومًا انتهى الأمر بتأمير ابنته بوران بنت شيرويه بن كسرى، فذهب مُلْكَهم ومُزِّقُوا كما دعا عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم - .
وقد روى البخاري حديثين آخرين بشأن فارس، هما:
"عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بكتابه إلى كِسْرى مع عبد الله بن حذافَهَ السَّهمي فأمرَهُ أن يدفَعَه إلى عظيم البحريْنِ فدَفَعَهُ عظيمُ البحرين إلى كِسْرى فلمّا قرأه مزّقهُ - فحسِبتُ أنَّ سعيد بن المسيب قال - فدعا عليهم رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يمَزَّقُوا كُلَّ مُمزَّقِ .
و"أنّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا هَلَكَ قيصر فلا قيصر بعدَه، وإذا هَلَكَ كِسْرى فلا كِسرى بعده، والذي نفسي بيدِه لتنفقن كنوزهما في سبيلِ الله" .
فالحديث خاصّ بقوم فارس ويدخل في إطار الإخبار والبشارة لا في باب الحكم الشرعي.
- أنه وإن كانت القاعدة الأصولية هي أن " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب "، فإن هناك قرينة على خصوص سبب الحديث، وهي الآيات القرآنية التي تروي قصة بلقيس ملكة سبأ ، والتي تولَّتْ أمر قومها بالشورى وتمتعت بالحكمة وإدراك السّنن الاجتماعية، فأفلحت وأفلح قومها.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآيات لا تدخل في إطار "شرع من قبلنا" الذي يمكن للحديث النبوي أن ينسخه ؛ إذ أن الحديث كما ذكرنا لا يتضمن حكمًا، بل هو إخبار بعدم الفلاح، كما أن الأهلية لا ترتبط باختلاف الشرع بل بقدرة المرأة وعقلها، وهذه فطرة وسُنّة وليست حكمًا ينسخ . ولو كان الحديث عامًا لنشأ بذلك تعارض بين القرآن والسُّنّة، وهذا لا يكون، مما يؤيّد دعوى خصوصية الحديث بقوم فارس وعدم انسحابه على أية ولاية للمرأة.
- السُّنّة الفعلية:
حيث يركّز المعارضون لتولية المرأة على أن رسول الله لم يُوَلِّ، ولا أحد من خلفائه، ولا من بعدهم، امرأةً قضاء ولا ولاية بلد، ولو جاز ذلك لم يخلُ منه جميع الزمان غالبًا، مع أن دواعي اشتراك النساء مع الرجال في الشئون العامة كانت متوفّرة إلا أن المرأة لم تطلب أن تشترك في شيء من تلك الولايات، ولم يطلب منها هذا الاشتراك. ولو كان ذلك مسوّغًا في كتاب أو سُنّةُ لما أهملت مراعاته من جانب الرجال والنساء بالمرة. ويؤكدون على أن هذا ما فهمه أصحاب رسول الله وجميع أئمة السَّلف، ولم يستثنوا من ذلك امرأة ولا قومًا ولا شأنًا من الشئون العامة .
وقد ردّ عليهم البعض بأن عمر بن الخطاب ولَّى امرأة تسمى "الشفاء" حسبة السوق، وهو ما أنكره الفريق الأول وطعن في صحّته، ورأى أنه من دسائس المبتدعة على سيرة عمر .
ونرى أنه سواء أكانت هناك نماذج لولاية امرأة في عصر الخلفاء أم لا فإن هذا لا يقدح في أهلية المرأة للولايات العامة؛ إذ أنه في ظل ما سبق تحليله من آيات قرآنية وأحاديث نبوية فإن عدم اشتراك المرأة في الشئون الإدارية للدولة مردّه إلى طبيعة الحياة الاجتماعية في صدر الإسلام، وليس من شأنه أن يعطّل الأحكام الشرعية، لأن الكتاب والسُّنّة الثابتة هما مصدر التشريع والأحكام . ويدلّ على طبيعة هذه الحياة الاجتماعية رواية لعمر بن الخطاب يقول فيها: "كنّا لا نعد النساءَ شيئًا، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن حقًا من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا" ، فلم يكن من الممكن نقل مثل هذا المجتمع من عدم اعتبار النساء بالمرة إلى توليتهن، وهو ما راعاه التشريع والتزمه الرسول في الأمور الخاصة بالعرف الاجتماعي ما لم يكن ماسًّا بالعقيدة. وتقول عائشة -رضى الله عنها-: "لو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا" ، فلم يكن العرف الاجتماعي بشأن المرأة أيسر على التغيير، لذا لم تتم تولية المرأة في العصر الأول، ومن ميزة الإسلام التدرج في الأحكام والتدرج في تغيير العرف الاجتماعي، و"الترك ليس بحجة" .
ثالثا ً: الإجماع
فقد دفع الكثير من الفقهاء والباحثين بأن هناك إجماعًا على عدم تولّي المرأة الولاية الكبرى، وإجماعًا على عدم ولايتها القضاء فيما لا تجوز فيه شهادتها، حيث أجاز أبو حنيفة أن تقضي فيما تشهد فيه، كما قرّروا أن الاتفاق على عدم ولايتها في باقي الولايات العامة كالحسبة والوزارة والمظالم وغيرها .
وقراءة المصادر الفقهية توضّح بطلان دعوى الإجماع؛ إذ أن ابن جرير الطبري قد أجاز للمرأة أن تكون حاكمًا على الإطلاق في كل شيء، وهو ما أورده عنه الكثيرون كابن رشد وابن قدامة وابن حزم والشوكاني ، وإذا كان البعض قد أنكر نسبة هذا القول إلى ابن جرير فإن مجرد الخلاف بشأنه يجعل الإجماع ظنيًا .
وحتى لو قبل ثبوت الإجماع جدلاً، فإنه من اللازم النظر في مدى انبناء الإجماع على التعبّد أو على المصلحة؛ ذلك أن "التعبّد لا خِيرة فيه واعتبار المصلحة فيه الخيرة، وما فيه الخيرة يصح تخلفه عقلاً.
فالإجماع الذي لا تجوز مخالفته هو "الإجماع المتحقّق الثابت منقولاً من طريق صحيح على حكم لا تتغير مصلحته على مدى الأيام".
رابعًا : المصلحة
ذهب البعض إلى أن تولية النساء تتعارض مع المصلحة من وجهين:
1- مصلحة الأُمة:
حيث إن المرأة في نظرهم عرضة للانحراف عن مقتضى الحكمة والاعتدال. والولايات فيها طلب الرأي وثبات العزم، وهو ما تضعف عنه النساء، فالسياسة حرام على المرأة صيانة للمجتمع من التخبط وسوء المنقلب. كما أن الولايات لها أعباء لا تقدر عليها المرأة، فالإمامة الكبرى مثلاً تستوجب حفظ الدين وتنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وحماية البيضة وإقامة الحدود وتحصين الثغور والجهاد ومباشرة الإمام الأمور بنفسه بل وإمامة المسلمين في الصلاة، وهو ما لا تقدر عليه المرأة؛ إذ أنّ منها ما هو مصروف عنها بحكم الشرع. وعلى ذلك فإن مشاركتها العامة يجب أن تقتصر على إدارة شئون النساء في المؤسسات الاجتماعية والقيام بمهام التعليم والتمريض، أو على أقصى تقدير القضاء في أمور النساء وولاية أمورهن إذا خصصت لهن وزارة أو هيئة لرعاية شئونهن.
2- مصلحة الأُسْرة:
حيث إن عمل المرأة بالولايات وقيامها بحقها يؤدّي إلى انشغالها عن بيتها وانهيار الأسرة، ويرى أصحاب هذا الرأي أنه إذا كانت بعض النساء تستطيع ذلك فالعبرة بالمجموع والفطرة وليس بالحالات الفردية.
ويلاحظ على الرأي الخاص بتعارض ولاية المرأة مع المصلحة العامة أنه ينبني على افتراض نقص الأهلية، وهو ما فَنَّدَتْه الدراسة آنفًا، كما أنه يدرك مسألة الولاية، خاصة الولاية الكبرى، باعتبارها منوطة بشخص واحد إذا صلح صلح الأمر وإذا ضعف فسد الأمر، وهو تصوّر لا يتضمّن أبعاد الشريعة والشورى، كما أنه يدرك الدولة ونظامها بشكل أقرب إلى الدولة- المدينة، أو الشكل القبلي للمجتمع لا الدولة ذات الامتداد والتركيب، بما يحصر تصور الدولة الإسلامية في شكل تاريخي معين ولا يتّفق وعالمية صيغة الدولة الإسلامية زمانًا ومكانًا.
أما عن مصلحة الأُسْرة فإن تأسيس الواجبات الكفائية - والولايات منها - على عدم التكليف إلاّ بالوسع يستلزم أن لا تتولى بداهة إلا المرأة التي تؤهّلها ظروفها الخاصة لتحمل أعباء الولاية، والأمر في هذه الحالة لا يُبنى كما ذهب هؤلاء على المجموع بل يتأسس على الاستثناء والخواص، لأنه من فروض الكفاية.
خامسًا: سد الذرائع
دفع المعارضون لولاية المرأة بأن الولايات تتطلّب البروز في مباشرة الأمر مما هو عليهن محظور؛ حيث أمرن بالقرار في البيوت، كما أن ذلك يستلزم الاختلاط الذي منعته الشريعة.
وهذا القول مردود بالسُّنة الفعلية الصحيحة عن رسول الله؛ حيث إن القرار في البيت كان خاصًا بنسائه دون غيرهن، أما باقي النساء فكن يخرجن للمشاركة في العبادات والمعاملات وطلب العلم والجهاد، بل والعمل المهني. ولا يجوز تعدية حكم زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- على كافة النساء وإلا كان ذلك إنكارًا للسُّنة الفعلية، فالمحظور في الشرع هو التبرج والخضوع بالقول وإدامة النظر والخلوة الكاملة. أما ما عدا ذلك مما تتطلبه الحياة الاجتماعية فمباح. ومسألة الخوف من الفتنة العارضة أو سدّ ذريعتها لا يصحّ أن تجعل دليلاً لتغيير حكم من أحكام الدين بحظر أو إباحة، حيث لا يتيسر للمرأة القيام بكلّ التكاليف بدون الاجتماع مع الرجال. ولا يحتج بوجود الفتنة فالحكم الشرعي المقرر في الكتاب والسُّنّة أو النصوص التي يبنى عليها الاجتهاد إنّما أنزلها ربّ عليم بما يكون وما سيكون عليه الناس من تقوى أو فساد.
والخلاصة هي أنّ الولايات العامة تستلزم أهلية خاصة، وأنّ من النساء من يملكن تلك الأهلية ويصلحن لتحمل مسئولية هذا الواجب الكفائي، ولا حجّة للرأي الذي يعارض ذلك، وإن كنّا نظن واقعيًا أنّ عدد النساء اللائى يمكنهن في الواقع العملي الجمع بين أعباء الولاية ومسئوليات الأُسرة قليل، مع ملاحظة أن قلّته المحتملة في المجتمع الإسلامي لا تمثّل بحال مؤشرًا على ضعف مشاركة المرأة الاجتماعية والسياسية؛ إذ أن مجالات فاعليّتها في الرؤية الإسلامية متنوعة ومتعددة، ولا تقل أهمية وتأثيرًا؛ خاصة في ظل المفهوم الإسلامي للممارسة السياسية الذي يجعل ما يسمى بالمجال الخاص أو مجال الأسرة مساحة واسعة للنشاط والتأثير السياسي، ولنا في هذا الموضوع كلام طويل يمكن لمن أراد أن يرجع فيه إلى النصف الثاني من كتابنا "المرأة والعمل السياسي: رؤية إسلامية"، والذي يفصّل الوظيفة السياسية للأسرة ومساحات الأمة والجماعة التي تقوم بأدوار سياسية في النظرية السياسية الإسلامية جنباً إلى جنب مع الدولة أو النظام.
هبة رؤوف عزت : مدرس مساعد العلوم السياسية - جامعة القاهرة .
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |