"أحمد مطر".. يحاورك بقصائده
منتصر مرعي – عمان
2002/03/17 م
أحمد مطر.. لافتاته عالم شعري خاص
حاولت أن أحاوره مرارا، لكنه رفض، وتوارى مؤثرا صمته وسكوته؛ إذ ما عاد يجدي الكلام. أطرقت مليا حائرا في أمر هذا النورس العراقي، علّي أجد حيلة تدفعه إلى الكلام ومحاورتي لكن دونما فائدة؛ فقررت الانصراف يائسا من محاولاتي. وعندما لجأت إلى دواوينه التي اجتازت العيون بصعوبة حتى وصلتني وجدته يحاورني: أسأله فيجيبني، وفاض سيل الكلام حتى كان الحوار التالي:
* قبلَ أن نبدأ.. أريد أن أعرف أحمد مطر الإنسان؟
- الفَرْدُ في بِلادِنا
مُواطِنٌ.. أو سُلطان
لَيسَ لَدَيْنا إنسان!
* وماذا عن لافتاتك؟
- سَبعونَ طَعنةً هُنا.. مَوصولةَ النَزْفِ
تُبدي.. ولا تُخْفي
تغتالُ خَوْفَ الموتِ في الخوفِ
سَمَّيْتها قصائدي
وَسَمِّها يا قارئي: حتفي!
* كم مضى من عمرك؟
- لا أدري
هل أعرِف وَجْهي؟
لا أدري
كم أَصْبحَ عُمْري؟
لا أدري
عُمري لا يَدري كم عُمْري!
كَيف سَيَدري؟!
مِن أوَّلِ ساعة ميلادي
وأنا هِجْرِي!
* أنت مقيم في المهجر.. أليس كذلك؟
- قَلَمي يَجْري
وَدَمي يجري
وأنا ما بَيْنَهُما أجري
الجَرْيُ تَعَثَّرَ في إثْرِي!
وأنا أجري
والصَّبْرُ تَصَبَّرَ لي حتّى
لم يُطِقِ الصَّبْرُ على صَبْري!
وأنا أجري
أجري، أجري، أجري..
أوطاني شُغْلي.. والغُربةُ أجْري!
* غريب أمرك أيها الشاعر، تشكو البعد والغربة ولا تعود إلى بلادك؟!!
- رَبِّ طالَتْ غُربَتي
واستنْزَفَ اليأسُ عنادي
وفؤادي
طَمَّ فيه الشَّوقُ حتى
بَقِيَ الشّوقُ ولم يَبْقَ فؤادي!
أنا حيٌّ مَيِّتٌ
دونَ حَياة أو مَعادِ
وأنا خَيطٌ من المطّاطِ مَشدودٌ
إلى فَرعٍ ثُنائيٍّ أحادي
كُلَّما ازدَدْتُ اقتراباً
زادَ في القُربِ ابتعادي!
أنا في عاصفةِ الغُربةِ نارٌ
يَستوي فيها انحيازي وحيادي
فإذا سَلَّمتُ أمري أطفأتْني
وإذا واجهتُها زادَ اتّقادي
ليسَ لي في المُنتهى إلاّ رَمادي!
وطناً للّه يا مُحسِنُ
حتّى لو بحُلْمٍ..
أكثيرٌ هُوَ أن يَطمعَ مَيْتٌ
في الرُّقادِ؟!
* أخبرني، كيف تقسم يومك مع بداية كل نهار؟
- هكذا أقسِم يومي:
سِتُّ ساعاتٍ.. لِهَمِّي
سِتُّ ساعاتٍ.. لِغَمِّي
سِتُ ساعاتٍ.. لِضَيمي
سِتُّ ساعاتٍ..
لِهَمِّي وَلِغَمِّي وَلِضَيْمي!
لَحْظَةُ واحِدَةٌ مِنْ يَومي التالي..
لِكيْ أبدأَ في تَقسيمِ يَومي!
* ترتاد عيادة الطبيب مراراً.. فما هي علتك؟
- جَسَّ الطبيبُ خافقي
وقالَ لي:
هَلْ ها هُنا الأَلمْ؟
قلتُ له: نَعَمْ
فَشَقَّ بالمِشرَطِ جيبَ مِعْطفي
وأخْرجَ القَلَمْ!
هَزَّ الطبيبُ رأسَهُ.. وَمالَ وابتَسَمْ
وَقالَ لي:
ليسَ سِوى قَلَمْ
فَقلتُ: لا يا سيّدي
هذا يَدٌ.. وَفَمْ
رَصاصةٌ.. وَدَمْ
وَتُهمَةٌ سافِرَةٌ.. تَمشي بلا قَدَمْ!
* لو أنك هجرت الشعر لما أوقعت نفسك في المتاعب وجلبت عليها المشقة والعنت، فلماذا الشعر يا مطر؟
- لماذا الشِعْرُ يا مطرُ؟!!
أتسألني
لماذا يَبزغ القمرُ؟
لماذا يَهطلُ المطرُ؟
لماذا العطرُ ينتشرُ؟
أتسألُني: لماذا ينزِلُ القدرُ؟!
أنا نَبْتُ الطبيعة
طائِرٌ حُرٌ…
* لا نرى منك سوى الكلام.. تماما كحكامك الذين تهجوهم، كلاكما لن يعيد لنا القدس.
- يا قدسُ معذرةً ومثلي ليسَ يعتذرُ
ما لي يدٌ فيما جرى فالأمرُ ما أمروا
وأنا ضعيفٌ ليسَ لي أثرُ
عارٌ عليَّ السمعُ والبَصَرُ
وأنا بسيفِ الحرفِ أنتحرُ
وأنا اللهيبُ.. وقادَني المطرُ
فمتى سأستعرُ؟!
هُزِّي إليك بجذع مُؤتمرٍ
يسّاقط حَولَكِ الهَذَرُ:
عاشَ اللهيبُ
.. ويسقطُ المطرُ!
* أجدك مهموماً حائراً وأخشى ألا يشجعني ذلك على الاسترسال في الكلام، ما الذي يجعلك شارد الذهن كهائم في صحراء التيه؟
- أصابعي تفرُّ من أصابعي
وأدمُعي حجارةٌ تسدُّ مجرى أدمعي
وخلف سور أضلعي
مجمرةٌ تفور بالضرامْ
تحمل في ثانيةٍ كلامَ ألف عامْ
لكنّني بيني وبيني تائهٌ
فها أنا من فوق قبري واقفٌ
وها أنا في جوفه أنام
وأحرُفي مصلوبةٌ بين فمي ومسمعي
ما أصعبَ الكلامْ
ما أصعبَ الكلامْ
يا ليتني مثلي أنا أقوى على المنامْ
يا ليتني مثلي أنا أقوى على القيامْ
حيران بين موقفي ومضجعي
يا ليتني.. كنتُ معي!
* صدقت، ما أصعب الكلام.. هذا هو حال الدنيا يا مطر، وكأني أرى فيك ذاك الرابض وسط الحِمى تماما كالشهيد ناجي العلي الذي أنطقت رسمه شعرا..
- عفواً، فلا تروي أسـاي قصيــدةٌ
إن لم تكــن مكتوبـــةً بدمائي
عفــواً، فإنّني إن رثيتُ فإنمــا
أرثي بفاتحـــة الرثــاء رثائي
عفـــواً، فإنّي ميِّتٌ يا أيهــا
الموتى، و"ناج" آخر الأحيـــاء!
"ناجي العليُّ" لقد نجوتَ بقــدرةٍ
من عارنا، وعلوتَ للعليــــاءِ
اصعد، فموطنك السـماءُ، وخلّنا
في الأرض، إنَّ الأرضَ للجبنـاءِ
مَنْ لَمْ يَمُتْ بالسـيف مات بطلقةٍ
من عاش فينا عيشة الشــرفاء
ماذا يضيرك أن تفــارقَ أمّةً
ليست سوى خطأ من الأخطـاء
فمدامعٌ تبكيك لــو هي أدركَتْ
لبكت علـى حدقاتها العميــاءِ
ومطابعٌ ترثيك لو هـي أنصفتْ
لرثتْ صحافةَ أهلِهــا الأُجراءِ
تلك التي فَتَحَتْ لنعْيكَ صـدرَها
وتفنّنت بروائــع الإنشـــاءِ
لكنّها لم تمتلِكْ شـرَفاً لكــي
ترضى بنشْرِ رسـومك العذراءِ
ونَعَتْك من قبل الممـات، وأغلقت
باب الرجاءِ بأوجــه القُــرّاءِ
* بالمناسبة.. لكثرة ما "يتغزل" إعلامنا بالأصوليين فلا بد أن لك رأيا فيهم، فماذا تقول في الأصوليين؟
- الأُصُوليّون قومٌ لا يُحبّونَ المحبَّةْ
ملئوا الأَوطان بالإرهابِ
حتّى امتلأَ الإرهابُ رَهبةْ!
وَيلهُمْ!
مِنْ أينَ جاءوا؟!
كيفَ جاءوا؟!
قَبْلَهُمْ كانت حياةُ الناس رَحْبَةْ
قَبْلَهُمْ ما كانَ للحاكمِ أن يَعطِسَ
إلاّ حينَ يستأذِنُ شَعْبَهُ!
وإذا داهَمَهُ العَطْسُ بلا إذن
تَنَحى.
ورجا الأُمَّةَ أن تَغفرَ ذَنَبهْ!
لم يَكُنْ مِن قَبلهم رُعْبٌ
ولا قَهْرٌ..
ولا قَتلٌ..
ولا كانتْ لدى الأوطان غُربةْ
كان طَعْمُ المُرِّ حُلواً
وهَواءُ الخَنْقِ طَلْقاً
وكؤوسُ السُّمِّ عَذْبَةْ!
كانتِ الأوضاعُ حَقَاً.. مُسْتَتبَّةْ!
ثُمَّ جاءوا...
فإذا النَّكْسَةُ
تَأتينا على آثار نَكْبَةْ
وإذا الإرْهابُ
يَنْقَّضُّ على انقضاضنا من كُلِّ شُعْبَةْ:
واحدٌ.. يقرأُ في المسجد خُطْبَةْ!
واحدٌ.. يَشرَحُ بالقرآن قَلْبَهْ!
واحدٌ.. يَعْبُدُ رَبَّهْ!
واحدٌ.. يحْمِلُ "مِسْواكاً" مُريباً!
واحدٌ.. يَلْبَسُ جُبُّةْ!
آهِ مِنْهُمْ
يَستفزّونَ الحُكوماتِ
إنْ فَزَّتْ عَلَيْهِمْ
جَعلوا الحبَّة قُبَّةْ!
فإذا ألقتْ بِهِمْ في الحَبسِ
قالوا أصبحَ الموطِنُ عُلْبَةْ
وإذا ما ضَرَبَتْهُمْ مَرَّةً
رَدّوا على الضَّرب.. بِسُبّةْ!
وإذا ما شَنَقتهمْ واجَهوا الشَّنقَ بِضربَةْ!
وإذا مَدَّتْ إليهم مِدْفَعاً
مَدّوا لها في الحالِ.. حَربَةْ!
وإذا ما حَصَلوا
في الانتخابات على أَعظَمِ نِسبَةْ
زَعَموا أنَّ لَهُمْ حَقاً
بأنْ يَسْتَلموا الحُكْمَ..
كأنَّ الحكمَ لُعْبَةْ!
* أينما كان الحديث مع شاعر اقترن بالحرية فحدثنا عنها يا مطر.
- لا تطْلُبي حُريَّةً أَيّتُها الرعيَّةْ
لا تَطلبي حُريةً..
بَلْ مارسي الحُريَّةْ
إن رَضيَ الرّاعي.. فألْفُ مَرْحَبا
وإنْ أبى
فحاولي إقناعهُ باللطُّف والرَّوِيَّة..
قولي له أن يَشربَ البَحرَ
وأن يبلعَ نِصْفَ الكُرةِ الأَرضيةْ!
ما كانتِ الحُريّةُ اختراعَهُ
أو إرْثَ مَنْ خَلَّفَهُ
لكي يَضُمَّها إلى أملاكه الشَّخصية
إنْ شاءَ أن يمنعها عنكِ
زَواها جانباً
أو شاءَ أن يمنحها.. قَدَّمها هَديَّةْ
قُولي لَهُ: إنِّي وُلدتُ حُرَّةً
قولي له: إني أنا الحُريّة
إن لم يُصدِّقك فَهاتي شاهداً
ويَنبغي في هذه القَضيَّةْ
أن تَجعلي الشاهدَ.. بُندقيَّةْ!
* دعنا من السياسة.. أنت متهم بأن أحاسيسك مقتولة، وأمانيك مأسورة، أو بأنك بقايا من رماد وشظايا تعصْف الريح بها.. باختصار: أنت لا تعرف ما الحبُّ؟!
- رحمةُ الله على قلبك يا أُنثى
ولا أُبدي اعتذارا
أعرفُ الحبَّ.. ولكنْ
لم أكن أملكُ في الأمر اختيارا
كان طُوفانُ الأسى يَهْدِرُ في صدري
وكان الحبُّ نارا
فتوارى!
كان شمساً..
واختفى لما طوى اللّيلُ النهارا
كان عُصفوراً يُغنّي فوق أهدابي
فَلَّما أقبل الصيَّاد طارا!
آه لو لم يُطلق الحُكَّامُ
في جلْدي كلاباً تَتَبارى
آه لو لم يملئوا مجرى دمي زيتاً
وأنفاسي غُبارا
آه لو لم يزرعوا الدَّمعَ
جَواسيسَ على عيني بعيني
ويُقيموا حاجزاً بيني وبيني
آه لو لم يُطْبِقوا حَوْلي الحصارا
ولو احْتَلتُ على النَفسِ فَجاريتُ الصَّغارا
وتناسيتُ الصِّغارا
* قبل أن نختم، كيف تصف واقعنا العربي مع "إسرائيل"؟
- النَّملَةُ قالتْ للفيلْ:
قُمْ دَلّكْني
ومُقابل ذلكَ.. ضَحِّكني!
وإذا لم أضحكْ عوِّضني
بالتّقبيل وبالتمويلْ
وإذا لم أقنَعْ.. قدّمْ لي
كُلّ صباح ألفَ قتيلْ!
ضَحك الفيلُ
فشاطتْ غضباً:
تسخر مني يا برميلْ؟
ما المُضحك فيما قد قيلْ؟!
غيري أصغرُ..
لكنْ طلبتْ أكثر مني
غَيركَ أكبرُ..
لكنْ لبّى وَهْوَ ذليلْ
أيّ دليلْ؟
أكبَرُ منكَ بلادُ العُرْبِ،
وأصغرُ منِّي إسرائيل!.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |