علي شريعتي/ العرفان الثوري أو هبوط في الصحراء .. كتاب لا بدّ منه
لميس احمد المؤيد *
بعد أربعة عقود ونيف على اغتياله في لندن (1977م) يعود معلّم الثورة الإيرانية المفكر علي شريعتي إلى المشهد الثقافي العربي؛ وبقوة هذه المرة، من خلال تعريب ونشر كتابه ” هبوط في الصحراء ” الصادر مؤخرًا (2019) عن دار الأمير في بيروت.
مع الهبوط في صحراء شريعتي فإنّك تبدأ رحلة لا تملك فيها إلّا أن تتسمّر في مكانك حتى تنتهي من سَفر عرفاني ثوري قلّ نظيره في عالم الأدب والفلسفة والعرفان. لأنّك ولأوّل مرّة ستتعرّف إلى شريعتي العارف، الصوفي، المتأمل، الوحيد، الغريب الذي يغالب الكثير من الأفكار الدينية الدخيلة وينتصر عليها. لكن شريعتي في كلّ الحالات، وإنْ اختلفت معه أحيانًا كثيرة؛ يبقى المفكر الثوريّ المعاصر الأوّل؛ وبلا منازع.
وهنا، عليك أن توطن نفسك بأنّ علي شريعتي سيأخذك بعيدًا، وغريبًا وعميقًا، وباحثًا ومشكِّكًا … حتى تهبط في صحرائه وحيدًا مومنًا.. لكن في هذه الرحلة إيّاك ألا تصطحب معك كتاب “التأويل”، مع كلّ صفحة، بل مع كلّ جملة في “هبوط في الصحراء”، لأنّه “هبوط” تغلب فيه الإشارة على العبارة، والرمز على الإيضاح، وإذا لم تصطحب كتاب “التأويل” ولم تكن متمكنًا من العرفان ومصطلحاته وشخوصه وتاريخه (الفارسي خاصة) فلا تقترب من”هبوط” شريعتي، كي لا تتسع ذمتك لمؤلِفِه ولو لدقيقة من الزمن.
وأثناء هذه الرحلة ستجوب مع شريعتي كلّ العذاب وكلّ الغربة وكلّ الوحدة، وكلّ التشرّد، وكلّ آلام ومخاضات التاريخ البشري الذي أسّس لمدارس كبرى في الفكر والفلسفة والدين، حيث يقول “إنّي كلّما مكثتُ في الأرضِ أكثر، ازدادَ عدمُ انسجامي معها. كلّما ضعُفَ هاجسُ الماءِ والخبز والملبس والمنزل ازددتُ اضطرابًا، عطشًا، جوعًا وعريًا وتشرّدًا! كم كنتُ أتمنى لو أنّ عذابًا ما، فقرًا ما، حاجةً ما لديّ، تكون على الأقل هادفةً ولو لعدّة أيام. “كان نقيًّا من العشقِ والحقدِ قلبي .. لكن لِمَا كان بهذا الحزن لستُ أدري؟” وكل ليلة أكثر حزنًا.”
أمّا المعرفة، فكانت لا تزيد شريعتي إلّا قوة ووعيًا، لكنّه ما يلبث أن يعود ليستقر في واحة وحدته، فيقول ” كانت المعرفة تزيدُني قوةً كلّ يوم، وكلّما ازدادت قوتي، ازدادَ وعيي لذاتي وللعالم. كان وعيي بالطبيعة يحرّرُني من أسر الطبيعة، وكنتُ أخرجُ حريتي من مخالبه من خلال وعيي بالتاريخ، وكنتُ أنتزعُ كلّ ألوانه وتصاميمه من جوهري، وكانت معرفة المجتمع البشري، ومعرفة مجتمعي، أصلي وبيئتي وعائلتي، تحرّرني من سلطة المجتمع وسيطرة المحيط، وكانت تُحيلُني سلطانًا على ما كنتُ رعيّتَه. وكان العرفانُ والدينُ يحرّرُني من نفسي، وكنتُ كلّما خلّصتُ نفسي أكثر من قبضة هؤلاء الخالقين الأربعة، أصبحتُ على الأربعةِ خالقًا، وأيُّ لذّةٍ كانت في هذه التحرّرات! في كلّ مرةٍ كنتُ أفكُّ إحدى سلاسل هذه السجون الأربعة الكبرى من أطرافِ روحي، كنتُ أتراقصُ احتفاءً بالنصرِ في خلوتي العظيمة، مثل الخواجة نصير وابن سينا، لأصعدَ درجةً نحو عرش سلطنتي، وأصرخَ بقوةٍ وشوقٍ من أعلى الوجود، أصرخُ في فمِ نفق التاريخِ الخالي والصامت هذا، الذي ينتهي إلى أراضي الأساطير. أصرخُ فوق شبكة عنكبوتِ هذا المجتمع الملتف على بعضه البعض، الذي يعصرُني كالذبابة ويمتصُّني، حتى أغرقَ في حنجرتي وأعودَ لأصرخَ من هذه الأنا التي غسلَها من كلّ الألوان: “أين الملوكُ وأبناءُ الملوك! الذين لو عرفوا اللذّات التي نحصدها في مزرعةِ وحدتِنا اللامتناهية، لشَهَروا سيوفَهم من أجل الحصول عليها!”
وعندما تهبط مع شريعتي في صحرائه، تبدأ رحلة الوعي المتدفق، وقد لا تنتهي، فما أجمله حين يقول “لقد رافقتُهم من ظلمةِ السحَرِ ونورها حيث انطلقت القافلة البشرية في فضاء الأساطير الضبابيّ، وجستُ خلال دنيا الأساطير كلّها، والسّحر والخرافة، حتى بلغتُ تُخومَ التاريخ، ورأيتُ سائر الحضارات والأديان والشعوب التاريخية وتعرّفتُ إليها، وعشتُ كلّ القرونِ مع الكلّ، وصلّيتُ في كلّ المعابد، وتحاورتُ في كلّ المدارس مع الحكماء والعلماء والأدباء والشعراء والفنانين، وحضرتُ محفلَ جميع الأنبياء حتى وصلتُ إلى الحاضر. جلتُ الشرقَ وجلتُ الغربَ ومشيتُ خطوةً بخطوةٍ إلى جانب الفكر والإحساس حتى وصلتُ إلى الوحدة، إلى الغربة، إلى (الهبوط في) الصحراء!
أمّا عندما تمرّ على مقدمة التحقيق لكتاب ” هبوط في الصحراء ” عليك أيضًا أن تتوقف؛ وتستعد لرحلة ثانية مشابهة إلى حدٍّ ما، رحلة تاريخيّة تتجلّى على هيئة جغرافيا مرئية، ستمضي بها هذه المرة عبر قلب الشاعر الدكتور محمد حسين بزي ، لأّنّك ستكون في صحراء حرارتها من لذة العاشقين ما يفوق الوصف، وفي ظلماتها من نور السالكين ما يعجز عنه التعبير, لكن في الحالتين ثمة إبداع خلّاق وآسر، إذ ستجد عشق بزي يأخذك حيث يشاء هو، وليس أمامك سوى المتابعة، ولو انقطع السير بك فجأة؛ فاصبر حتى يأتيك اليقين بعد برهة أو برهتين.
ولم تكن السنتان اللتان قضاهما بزي في تحقيق وضبط هذا الكتاب ” هبوط في الصحراء ” من سني الدنيا؛ بل مرّتا عليه كأنّهما العمر بأكمله، ليكون هذا الميراث هو الأثر الأنقى والأسمى في تاريخه حسب تعبيره.
فأنت _مع هذه المقدمة_ في حضرة عاشق درس الفلسفة، ولذته هي تحمّل ألم المحبة لا غير، إذ أصبح سباحًا ماهرًا في الرمل الحارق والغبار الملتهب وتحت شمس متأهبة على الدوام؛ وقد تجرّد من كلّ ما عليه، وما له؛ ليحترق بلهيبها بلا ماء يرويه، ولا حتى هواء يكفيه مؤونة أنفاس العشق، لكن كان شوك المعرفة في شوق المناجاة هو ما يروي روحه.
نعم، ستحلّق عاليًا عدة مرات مع أعظم فلاسفة وحكماء التاريخ, وتطوف معه في سماء بعيدة بعد أن طوى شمس تبريز الأرض لعدم اتساعها لعشقه، لكن بزي اختصرها بصفحات معدودة.
مقدمة أدبيّة فلسفيّة وجدانيّة تجعلك في ذهول متصل بالأبد مع كلّ كلمة كُتبت فيها؛ لدرجة أنك تشعر بها حدّ الإمساك بياقوت الوقت _حسب تعبيره في إحدى قصائده_ وتلمس معانيها بشغاف القلب الناهض بهم العدل، وتغوص في أعماقها مقارعًا الظلم أينما وُجد ومهما كان الثمن.. لكن المفاجأة أنك تحسّ وتسمع وترى بعينيه _في صحراء شريعتي_ آبار نخيل المدينة التي حُفرت بأنين علي عليه السلام.
مع المقدمة؛ وفي التحقيق على مدى 864 صفحة، ستجول فيما يحتويه الكتاب ” هبوط في الصحراء ” بمنهج شريعتي الخاص، وأيضًا ستجول مع الغايات العظمى للدين، والمقاصد العليا للشريعة، ومع حدسه الفكري ستكون تلميذًا في مدرسة جديدة لفهم الفكر الديني.
لكنك أيضًا، ستشعر بالقوة في وقت الضعف وهو يعانق الأرواح العالية محلقًا في سماوات الملكوت.
مقدمة تأخذك لصحراء لا تريد منها إلًا الهبوط فيها, ومعرفة كلّما ازددت منها شعرت بالقوة، أيضًا بالعطش وبالشوق لقراءة هذا الكتاب الجليل، فأسلوب بزي فيه من الجمال والإبداع ما يغنيه عن الوصف، كيف لا؟، وهو القائل أنّه قد وصل إلى العقل فيما وراء العقل.
ومن كان على قيد العشق لا يصبح إلّا عاشقًا.
هذا الإرث القيّم تنفرد بنشره دار الأمير في بيروت؛ ويأتي ضمن سلسلة الأعمال الكاملة التي تصدرها الدار للمفكر الراحل منذ العام 1992م.
وقد قام بتعريب الكتاب الدكتور ياسر الفقيه والأستاذة مريم ميرزاده، وحقّقه وراجعه الدكتور محمد حسين بزي الذي قال في مقدمته الوافرة:
“سنتان من عمري قضيتهما في تحقيق ومراجعة وضبط هذا الكتاب.. سنتان من الألم والأمل, من الحزن والفرح, ومن الحيرة والغربة.. سنتان جانبت وأحيانا أهملت فيهما عملي ودرسي وكتبي, وحتى أسرتي لأفرّغ ما أمكنني من وقت لهذا الكتاب..”
ويتابع: “سنتان من عمري قضيتهما، بل مرّتا فيَّ كأنّهما العمر بأكمله، فحتى لو قضيتُ بعدهما وأسلمتُ الروح؛ فإنّه يكفيني عند ربّي وفي ميراثي أنّني أنجزتُ لقرّاء العربيّة ” هبوط في الصّحراء “.
ويضيف “لئنْ تحقّق كتابًا لـ علي شريعتي يجب أن تكون سبّاحًا ماهرًا، فكيف إذا كان ” هبوط في الصّحراء “؟! حيث هنا عليك أن تسبح في الرمل الحارق والغبار الملتهب تحت شمس متأهبة.. حافي القدمين، عاري الجسم .. لا ماء يروي، وأحيانًا لا هواء يكفي، لكن في كلّ الأحايين لا ثمار سوى شوك المعرفة في شوق المناجاة.
أذكر أنّني كنتُ أسبح مرّة وأطير أخرى ..! أسبح في التاريخ الذي تجلّى على هيئة جغرافيا بسرعة غزال هام فعام فوق الرمال.. وأطير بسرعة سلحفاة استعارت من البطّ جناحيّه في ريح عصوف مفتّشًا عن إبرة تراءت كظلّين لشبحين غابا وراء لاوتسو.. ليظهر كونفوشيوس فجأة ممسكًا الميزان وعن يمينه بوذا المتشح بغصنيّ زيتون، حسبتهما من طور سيناء..! أي تخبط عشته وقد ظهر الثلاثة عليّ بروح واحدة وقلب واحد؟ لكن أي لذّة عشتها عندما تعرّفتُ إليهم .. ونهلتُ منهم بعد أن صحبتهم لقرنين..! لا، لسنتين، لا لساعتين، عفوًا، ربما لدقيقتين تخلصتُ فيهما من “السمسارا” وعبرت “الكارما” دون ألم العقاب لتقبض على روحي “النيرفانا” الكاملة وأنا على قيد العشق صرت لا شيء.. صرتُ عاشقًا”.
وأجمل الختام ما جاء في الصفحة الخلفية لغلاف الكتاب، مقتطفات من كلمتي الإمام السيّد موسى الصدر و الشهيد الدكتور مصطفى شمران في رثاء الدكتور شريعتي ، وممّا قاله الإمام موسى الصدر : ” الدكتور شريعتي، كان أحد قادة الفكر الإسلامي في العالم. أفكاره قيِّمة جدًا، وكان يحضر درسه الأسبوعي، حوالي ستة آلاف طالب وطالبة جامعيين في مؤسسة باسم “حسينية إرشاد”. طبعًا حُورِب من قبل الحكم في إيران، وحُورِب أيضًا من قبل مجموعة من رجال الدين الذين يعتبرون الإسلام محتكرًا لهم، ومن حقهم وميراثهم، وهم وحدهم يفهمون الدين، ولا يحق لأحد أن يفهم غيرهم. هذا الرجل (علي شريعتي) بالفعل كان مصدر الإلهام ومصدر التفكير والعطاء للكثير من الحركات الإسلاميّة، من جملتها حركتنا، ولذلك نحن نعتبره فقيدنا وخسارتنا، ونكرّمه في هذا اليوم”.
وممّا قاله الشهيد مصطفى شمران : “يا علي .. ربما تعجب لو أخبرتكَ أنّه خلال الأسبوع الماضي، قد ذهبت لساحة معركة بنت جبيل، وقضيتُ عدّة أيام بمعاقل تلّة مسعود الأمامية؛ بين مجاهدي حركة أمل، وحملتُ معي كتابًا واحدًا ؛ كان كتابكَ “الصحراء”، صحراء غنيّة بعالم الفكر والفيض، صحراء رفعتني إلى السموات، ووصلتني بالأزل والأبد، صحراء سمعتُ فيها نداء العدم؛ فارتحتُ من وطأة وزخم الوجود، فحلّقتُ إلى ملكوت السموات، ووصلتُ إلى درجة الوحدة والاتحاد .. صحراء أذابت جوهر وجودي ووضعتني عاريًا أمام شمس الحقيقة المحرقة..، وحرقت جميع الأكاذيب والزيف فأضحى دخانًا، وعرضتني في مذبح العشق قربانًا لربِّ الكون”.. ليختم شمران “متدينو التعصّب والجهل طعنوك وحاربوك بحربة التكفير، ولم يترّفعوا أو يتهاونوا عن أية عداوة أو اتهام.. والمتغربون أيضًا الذين سمّوا أنفسهم بالباطل مفكرين؛ أهانوكَ واتهموكَ بالرجعية. أيضًا، نظام الشاه لم يستطع تحمّل وجودك؛ رأى تنويرك ضد مصالحه؛ فقيّدك بالسلاسل ثم قتلك”.
” هبوط في الصحراء ” كتاب لا بدّ منه، كتاب يجب أن يُقرأ بنبض القلب قبل نظر العين.