هبوط في الصحراء مع محمد حسين بزي
إكرام زرقط
كثر هم الباحثون والكتاب والأدباء والشعراء . لكن ليسوا جميعاً -مع فائق التقدير لابداعاتهم - الأديب الشاعر الروائي والناشر البليغ الثقافة وفائق الإبداع الدكتور محمد حسين بزي ، الذي يتقن فن الغوص في أعماق الثقافات وغياهب أبعادها .. ليصبح السردال السكوني في رحلات البحث عن لؤلؤ الفكر والإبداع .. فيتقن العوم والسباحة والغوص ويبدع في انتخاب الصيد الثمين .. ليصبح أيضاً وأيضاً الدليل والمسافر في آن .
وأن يصحبك الدكتور بزي و دار الأمير في بيروت ، في رحلة عبر كتاب للفيلسوف الإسلامي الثائر الدكتور علي شريعتي ( هبوط في الصحراء ) لتهبط في تحقيقه في صحراء فكر إسلامي عريق .. أجبره أن يسبح في الرمل الحارق والغبار الملتهب تحت شمس متأهبة .. يقتات شوك المعرفة اللاسعة المناجاة . . فيسبح وتسبح معه، وحين يطير لا تملك إلا أن تطير معه وهو يجول في تاريخ تجلى جغرافية تحدد معالم تلك الثقافة وعمقها وغناها وأبعادها، فتلتقي في رحلتك معه بكبار وأفذاذ التاريخ والإبداع .. ثم يطوف بك عنوة عنك في سماء شمس (تبريز) طاوياً الأرض إذ ضافت على عشقه إلى فضاءات أرحب أضاءت طبقاتها الغايات العظمى التي انغمس بين مقاصد شريعتها الكاتب الفذ، ليسطر فصولاً من العرفان والفلسفة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع، و يجول بين الأديان والمذاهب والملل والنِّحَلِ وأساطير الحكايا والحكم والأمثلة .. وتغدو معه تلميذاً في مدرسة جديدة في فهم الفكر الديني عامة والثقافة خاصة .
هي ذي رحلة من رحلات باحث محقق وشاعر أديب .. شفاف شفافية أنوار المعرفة .. وصلب صلابة الفكر البعيد الإيمان الثابت المبادىء .. ولا تنتهي الرحلة إلا وقد خصك من فيض صيده بلسعات من بريق ذلك اللؤلؤ الذي يدفعك لتقرأ ما قرأ ، فتغنم ما استطعت.. وأسلوبه الرائع الذي يستفز عقل من يؤمن أن العلم والثقافة هما أهم سبل رقي الإنسانية .
تتفرد شخصية الشاعر الدكتور محمد حسين بزي بنسق من أنساق الكتابة المسؤولة الأنيقة التي تحتفظ بجمالها كأميرة مجلجلة لا يحل الزمن على مسار حياتها لتبقى في ألقها.. وبهائها .. وبريقها.
محمد حسين بزي الذي لا ينعس الضوء على سطوره.. ولا تخمد أنفاس النقاط حين تعانق حروفه .. ولا ينقضي موسم الأعياد بين ثنايا ثقافته الجمة الجمال .. ولا يعتق الزمن المنتظر لكل جديد له.. يتجدد بك ولك فرحنا .. والثقافة والأدب والشعر والتميّز لأنك تضفي عليهم من طموحك الوثاب وفكرك الأصيل المتجدد .. ليصح القول في نتاجك القيم إنك تؤسس بل أسست ليس لمدرسة فحسب بل لنهج في رقي الثقافة ورفعتها، وإمارة ترفل بكل جميل .. ليتتلمذ على يديك كل تواق للمعرفة وذواق للإبداع .
كل الشكر دكتور على هذا التحقيق الوافي الشافي لهذا الكتاب القيم ، والتوفيق لكم ولـ دار الأمير في بيروت التي أصدرت النسخة العربية الكاملة لـ " هبوط في الصحراء " للدكتور علي شريعتي . والذي سيُطلق في حفل تدشين كبير في بيروت خلال الأيام المقبلة .
حيث تمتاز هذه الطبعة بمطابقتها للنص الفارسي الكامل لآثار شريعتي الصحراوية، والمنشور في كتاب " هبوط در گوير ". ويقع الكتاب في 864 صفحة من القطع الكبير / تجليد فني فاخر / مع سبعة فهارس علمية، وملحق خاص بوصية شريعتي الكاملة التي تنشر للمرة الأولى باللغة العربية، إضافة إلى نماذج مصورة بخط شريعتي نفسه.
وقام بتعريب الكتاب : الدكتور ياسر الفقيه والأستاذة مريم ميرزاده، وحققه الدكتور محمد حسين بزي على مدى سنتين مفعمتين بالقلق الخصب حتى خرج بهذه الحلة القشيبة للتي تطل علينا مع هلال محرم كهلال معرفة أو قل أكثر .
وأختم بمقتطفات من مقدمة التحقيق للدكتور بزي الدّالة، حيث يقول:
"سنتان من عمري قضيتهما، بل مرّتا فيَّ كأنّهما العمر بأكمله، فحتى لو قضيتُ بعدهما وأسلمتُ الروح؛ فإنّه يكفيني عند ربّي وفي ميراثي أنّني أنجزتُ لقرّاء العربيّة " هبوط في الصّحراء ".
وأضاف " بزي " لئنْ تحقّق كتابًا لـ علي شريعتي يجب أن تكون سبّاحًا ماهرًا، فكيف إذا كان "هبوط في الصّحراء"؟! حيث هنا عليك أن تسبح في الرمل الحارق والغبار الملتهب تحت شمس متأهبة.. حافي القدمين، عاري الجسم .. لا ماء يروي، وأحيانًا لا هواء يكفي، لكن في كلّ الأحايين لا ثمار سوى شوك المعرفة في شوق المناجاة.
أذكر أنّني كنتُ أسبح مرّة وأطير أخرى ..!
أسبح في التاريخ الذي تجلّى على هيئة جغرافيا بسرعة غزال هام فعام فوق الرمال.. وأطير بسرعة سلحفاة استعارت من البطّ جناحيّه في ريح عصوف مفتّشًا عن إبرة تراءت كظلّين لشبحين غابا وراء لاوتسو.. ليظهر كونفشيوس فجأة ممسكًا الميزان وعن يمينه بوذا المتشح بغصنيّ زيتون، حسبتهما من طور سيناء..! أي تخبط عشته وقد ظهر الثلاثة عليّ بروح واحدة وقلب واحد؟ لكن أي لذّة عشتها عندما تعرّفتُ إليهم .. ونهلتُ منهم بعد أن صحبتهم لقرنين..! لا، لسنتين، لا لساعتين، عفوًا، ربما لدقيقتين تخلصتُ فيهما من "السمسارا" وعبرت "الكارما" دون ألم العقاب لتقبض على روحي "النيرفانا" الكاملة وأنا على قيد العشق صرت لا شيء.. صرتُ عاشقًا.
وأحيانًا، وأنا أسبح -وفي نفس الوقت- كنتُ مضطرًا للطواف في السّماء كي ألتقط نجمة من مثنوي، كانت خرجت مع أنفاس مولانا مرموزة لدرويش أمّيٍّ كي يدور في سماء "شمس" بعد أن طوى الأرض لأنّها لم تعد تَسَع عشقه.. من هناك، من الأعالي، من الأعلى رماني بها كي أقف على مقولات بابا طاهر الأولى والسُّهروردي في إمارة إشراقه.. وأنا إنْ لم أطِر إلى سماء شمس تبريز فكيف كنتُ سألحق بـ سارتر لأعيد للعدميّة روحها القديمة؟!
شريعتي في هذا الكتاب قد لاحق الغايات العظمى للدين، والمقاصد العليا للشريعة، ولكن بمنهج خاص، ولم أكن أتوقعه لحينه.
والآن، عندي من الحدّس الفكري ما يكفي لأقول: إنّ هذا الكتاب " هبوط في الصّحراء " بما فيه من فلسفة وعرفان وتاريخ وعلم نفس واجتماع وأديان ومذاهب وملل ونِحل وأساطير وحكايا وحكمة وأمثلة وشعر ورواية، وحتى القصّة القصيرة؛ سيؤسّس لمدرسة جديدة في فهم الفكر الديني؛ سيما عند الناطقين بالضاد. مدرسة قوامها استدعاء التاريخ وشخوصه واسقاطهما على الواقع الفكري المعيش، ليس اسقاطهما فقط؛ بل تقمّصهما -بعد الهبوط فيه- بكلّ المعنويات العالية والفلسفات الكبرى.
وختم محمد حسين بزي مقدمته قائلًا "
وها أنا، ورغم أنّ معاناتي -بل معانقتي للأرواح العالية وسَفري الملكوتي- في تحقيق هذا الكتاب والتي تحتاج كتابًا -لا يقلّ حجمًا عن هذا الكتاب- لتدوينها، لكنّني طفتُ مع شريعتي كلّ الأديان وكلّ الحضارات وكلّ الثقافات، بل وكلّ التاريخ البشري، فضلًا عن كلّ الأسئلة والإجابات .. وبعد أن نفضتُ يدي وقلبي وعقلي من الأرض وأفكارها وأساطيرها وأديانها وشخوصِها عرجت معه إلى سماء التوحيد الخالص؛ ولأهبط معه إلى الصّحراء الخالية من كل شيء سوى الواحد الأحد.. من هذه الصّحراء تقمصته وانطلقتُ وحيدًا؛ لكنّني لستُ غريبًا .. نعم لست غريبًا؛ لأنّني كنتُ عصرتُ معه كلّ فكرة، وكلّ وحي، وكلّ آية، وكلّ روح، وشربتها نقطة نقطة، نشوة نشوة، بهمّة السالك وهيبة المُوحِّد بين قوسي الصعود والهبوط..
ووصلتُ .. ووصلتُ إلى العقل فيما وراء العقل."