المثقفون وعلي شريعتي.. نظرة نقدية
سلمان عبد الأعلى *
قبل فترة ليست بالقليلة كتبت مقالاً بعنوان «كيف نقرأ فكر علي شريعتي؟» نقدت فيه التعاطي السلبي والساذج لبعض رجال الدين مع فكر هذا المفكر الكبير، حيث دأب الكثير منهم على الاكتفاء بتحريم قراءة كتبه باعتبارها من كتب الضلال، وذلك نتيجة لما اشتملت عليه هذه الكتب - بحسب رأيهم - من انحرافات دينية وإساءات للمؤسسات الدينية ورجالها.
وخلاصة ما خرجت به من هذا المقال؛ هو أن هؤلاء لم يحسنوا قراءة فكر شريعتي جيداً، لأنهم قرأوا أفكاره وآراءه من ناحية دينية بحتة، ولم يقرأوها بكامل أبعادها وجوانبها، ولذا أخذوا يتصيدون هفواته متجاهلين كل ما تضمنته تجربته من محاسن وإيجابيات، وهذا برأيي خطأ فادح، لأن شريعتي ليس رجل دين ليصح قراءته على هذا النحو، وإنما هو عالم اجتماع يهتم بتحليل الظواهر الدينية والوقائع التاريخية وفق معطيات وأسس ونظريات علم الاجتماع.
وعلى هذا الأساس، فلا يصح التغافل عن هذا الجانب الأساسي من فكره، لأن الكثير من قرائه «أي شريعتي» لا يقرأون له لكي يأخذوا منه أصول العقيدة أو المسائل الشرعية أو القيم الأخلاقية أو غيرها من المعارف الدينية، وإنما يقرأون له لكي يتعرفوا على رؤيته وتحليلاته الاجتماعية لبعض الأفكار والظواهر الدينية والتاريخية.
وأجدني مضطراً في هذا المقال للحديث مجدداً عن كيفية التعاطي السلبي مع فكر علي شريعتي، ولكن هذه المرة لن تكون وقفتي مع بعض رجال الدين كما كان عليه الحال في المقال السابق، وإنما ستكون مع بعض المحسوبين على أهل الثقافة والفكر، أي من يُسمون بالمثقفين، وذلك لأن بعض هؤلاء أيضاً لم يحسنوا قراءته جيداً.
وقد يقول قائل: كيف يمكن أن يكون المثقفون لم يحسنوا قراءة فكر علي شريعتي وهم أكثر شريحة مطلعة على تراثه ومروجة لآرائه وأفكاره؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من توضيح أمر مهم وهو: أنني ذكرت بأن وقفتي ستكون مع بعض المحسوبين على أهل الثقافة والفكر «المثقفون»، ولكن لم أقل بأنها ستكون معهم بأجمعهم، فعندما أقول «بعض» فإني أقصد ما تعنيه هذه المفردة بتمامها، إذ لا أعني بها الكل، بل ولعلي لا أعني بها الأكثر أيضاً.
وأما للإجابة عن هذا السؤال فأقول: بأن البعض منهم - أو منهن - كثيراً ما يعرضون أنفسهم وكأنهم سائرون على ذات المنهج الذي سار عليه شريعتي، في حين أن ذلك لا أساس له من الصحة، لأنهم في جهة وهو في جهة أخرى، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على المستوى المتدني لفهم المعالم الأساسية التي يتسم بها فكره. وأكاد أجزم بأن هؤلاء لا ينسجمون معه فكرياً إلا في بعض النواحي والجزئيات، وأما في الأمور الأساسية والجوهرية فشتان ما بينهم وبينه.
ولا يظن البعض بأني أبالغ في كلامي هذا، بل هو أمر مبني على اطلاعي ومعرفتي بفكر علي شريعتي من جهة، ومتابعاتي لما يطرحه هؤلاء في جلساتهم أو عبر المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي «كالفيس بوك وتويتر» من جهة أخرى، حيث يخيل لي أثناء قراءتي أو استماعي لما يدلون به بأنهم غير مطلعين على فكره اطلاعاً كافياً، ويمكن بيان هذا الأمر من خلال استعراض ثلاثة فروقات أساسية وجوهرية بينه وبينهم فيما يلي:
أولاً: القراءة الأيدلوجية للدين
من الواضح لكل مطلع على فكر شريعتي أنه يقدم قراءة أيدلوجية للدين، ولذا نجده يوجه المبادئ الدينية من أجل تحشيد الجماهير لتحقيق الهدف أو التغيير الذي ينشده، ولا شك بأن للقراءة الأيدلوجية عيوبها الكثيرة، وذلك لأن سيطرتها قد يحول دون الوصول إلى نتائج علمية سليمة وموضوعية.
وأما بعض المثقفين أو من يحسب عليهم فهم كثيراً ما يحاولون أن يظهروا أنفسهم بمظهر الالتزام الكامل بالمنهج العلمي السليم، إذ يدعون بأن ما يطرحوه خالٍ تماماً من أي أثر أيدلوجي - طبعاً بغض النظر عما إذا كان ذلك صحيح بالفعل أم لا - ولكن المفارقة الفاضحة هي أنهم مع ذلك يعلنون تأييدهم للكثير من أفكار وآراء شريعتي المتأثرة بالأيدلوجيا التي يتبناها، لدرجة نجد بعضهم وربما خلال أسطر معدودة فيما يكتبه يدعي بأن ما يطرحه هو طرح علمي وموضوعي، ولكن بعدها يستشهد ببعض الأفكار أو العبارات المؤدلجة لشريعتي ويؤيدها!
ثانياً: التركيز على مسألة الأصالة والهوية
كذلك يلاحظ بأن شريعتي كثيراً ما يؤكد على مسألة الأصالة والهوية، فهو وإن كان ينقد بعض ما يحويه الموروث الديني «الإسلامي/الشيعي» إلا أنه لا يستهدف بنقده التخلي عنه تماماً، والانطلاق بعيداً في أفق وفضاءات الأفكار التي ولدت من رحم الفكر الغربي، وإنما على العكس من ذلك، حيث يؤكد في معالجاته دائماً على مسألة الأصالة والهوية، ولذا يصر على ضرورة «العودة إلى الذات» كما هو في عنوان أحد كتبه، لأن نقده موجه دائماً للأمور الدخيلة لا للأمور الأصيلة، فنجده مثلاً في كتاب «التشيع العلوي والتشيع الصفوي» ينقد ما أدخله الصفويون على التشيع من أفكار أو ممارسات فيما أسماه ب «التشيع الصفوي»، ولكنه مع ذلك يدافع عن التشيع الأصيل الذي أطلق عليه اسم «التشيع العلوي». طبعاً بغض النظر عن صحة بعض النتائج التي توصل إليها من عدمها، ولكن ما يهمنا هنا هو التأكيد على أصل الفكرة التي يتبناها.
وأما بعض دعاة الثقافة عندنا فهم وإن كانوا يتفقون معه في نقده للموروث الديني، ولكن ليس لديهم أي حرص أو اهتمام بمسألة الهوية والأصالة، بل نجد أنظارهم ومعالجاتهم تتجه دوماً نحو الفكر الغربي وتنسجم معه كثيراً. كذلك أؤكد هنا أيضاً بأني في كلامي هذا لا أريد القول بأن هذا الأمر صحيح أم لا، وإنما أحاول فقط وفقط أن أبين أهم الفروقات التي بينه وبينهم في هذا الجانب.
ثالثاً: خصائص المثقف ومسؤولياته
يعتقد شريعتي بأن المثقف في الرؤية الإسلامية يختلف عن المثقف في الرؤية الغربية، لأن المراد بالمثقف عند الغرب هو من يكون عمله عملاً عقلياً أو فكرياً، وهو ما يقع في مقابل الحرفي الذي يكون عمله يدوياً أو بدنياً، وأما في الرؤية الإسلامية بحسب شريعتي فالمثقف هو من ينطلق لمعالجة مشاكل مجتمعه ولإحداث التغيير الاجتماعي المنشود استناداً على قاعدة عقائدية صحيحة، أي أن دوافعه في تحركاته هي دوافع ومنطلقات دينية لاعتقاده بأنه مكلف بها دينياً، وهذا ما يختلف عن دوافع المثقف في الرؤية الغربية.
وبناءً على ذلك، فلا مانع بحسب رؤية شريعتي من أن يكون المثقف حرفياً ويعمل عملاً يدوياً أو بدنياً، ولكن بشرط أن يمتلك أفقاً واسعاً في التفكير وشعوراً كبيراً بالمسئولية ويمارس نشاطاً فكرياً وعقدياً لحل المشاكل التي يعاني منها مجتمعه. ومن هنا نفهم لماذا يعتقد شريعتي بأن دور المثقف ومسؤوليته في مجتمعه يشبه الدور الذي يلعبه الأنبياء والرسل وأئمة المذاهب القديمة كما يقول في كتاب «مسؤولية المثقف».
وأما بعض مثقفينا أو بعض مفكرينا - كما يحلو للبعض تسميتهم - فمن الواضح بأن مفهوم المثقف عندهم هو نفس المفهوم الذي ينقده شريعتي في الرؤية الغريبة، فهم لا يولون أية أهمية للجوانب العقائدية فضلاً عن أن يستندوا إليها في تحركاتهم، علماً بأن غالبية أدوارهم وتحركاتهم لا تحدث أثراً ملموساً في الواقع الاجتماعي، نظراً لكونها أدواراً شكلية أكثر منها أدواراً فعلية أو حقيقية. وأما عن مسؤوليات المثقف وأدواره، فهي عندهم لا تنطلق عادةً من أهداف دينية؛ إما لاعتقادهم بأن المسؤوليات الدينية هي من شأن رجال الدين فحسب أو لعدم إيمانهم بهذا النوع من الأهداف، وهذا عكس ما يراه شريعتي تماماً!
بناءً على ما تقدم؛ يتضح لنا بعض الاختلافات الأساسية بين فكر بعض من يُطلق عليهم بالمثقفين في مجتمعاتنا وبين فكر علي شريعتي. وليست المشكلة مع هؤلاء في كونهم يختلفون معه كلياً أو جزئياً، فهذا أمر طبيعي ولا إشكال فيه، وإنما في كون بعضهم يحاولون الإيحاء للآخرين «قرائهم أو مستمعيهم مثلاً» بأنهم منسجمون معه في فكره ومنهجه على الرغم من عدم صحة هذا الأمر، فكونهم يتفقون معه في نقد المؤسسات الدينية ورجالها مثلاً لا يعني بالضرورة عدم وجود بعض الفروقات الجوهرية والتي لا يمكن إهمالها أو التغاضي عنها فيما بينهم وبينه، سواءً كانوا يشعرون بذلك أم لا.
ولا يفوتني كذلك أن أشير إلى إشكالية أخرى في كيفية تعاطي هؤلاء مع فكر شريعتي، وهي إشكالية تهدد مصداقيتهم وتضعها على المحك، حيث أنهم كثيراً ما يكتفون بانتقاء وترديد بعض ما يروق لهم من آرائه وأفكاره، بيد أنهم لا يعيرون أي اهتمام للإشارة إلى أخطاءه ومغالطاته، وهم في ذلك يشتركون مع بعض رجال الدين الذين لا يذكرون إلا سلبياته ويتجاهلون كل محاسنه وإيجابياته!
ختاماً أقول: ينبغي على دعاة الثقافة والفكر في مجتمعاتنا أن يتعرفوا جيداً على أهم الركائز والمعالم التي يتسم بها فكر علي شريعتي، وذلك لكي يتسنى لهم بعدها عرض آراءه وأفكاره لقرائهم ومستمعيهم كما هي في حقيقتها وواقعها، كما ينبغي عليهم أيضاً أن يعرضوا فكره بشمولية وبموضوعية تبين ما له وما عليه، وأن يتجنبوا الانتقائية واختزال فكره بكامله في نقد رجال الدين والمؤسسات الدينية.
وخلاصة ما خرجت به من هذا المقال؛ هو أن هؤلاء لم يحسنوا قراءة فكر شريعتي جيداً، لأنهم قرأوا أفكاره وآراءه من ناحية دينية بحتة، ولم يقرأوها بكامل أبعادها وجوانبها، ولذا أخذوا يتصيدون هفواته متجاهلين كل ما تضمنته تجربته من محاسن وإيجابيات، وهذا برأيي خطأ فادح، لأن شريعتي ليس رجل دين ليصح قراءته على هذا النحو، وإنما هو عالم اجتماع يهتم بتحليل الظواهر الدينية والوقائع التاريخية وفق معطيات وأسس ونظريات علم الاجتماع.
وعلى هذا الأساس، فلا يصح التغافل عن هذا الجانب الأساسي من فكره، لأن الكثير من قرائه «أي شريعتي» لا يقرأون له لكي يأخذوا منه أصول العقيدة أو المسائل الشرعية أو القيم الأخلاقية أو غيرها من المعارف الدينية، وإنما يقرأون له لكي يتعرفوا على رؤيته وتحليلاته الاجتماعية لبعض الأفكار والظواهر الدينية والتاريخية.
وأجدني مضطراً في هذا المقال للحديث مجدداً عن كيفية التعاطي السلبي مع فكر علي شريعتي، ولكن هذه المرة لن تكون وقفتي مع بعض رجال الدين كما كان عليه الحال في المقال السابق، وإنما ستكون مع بعض المحسوبين على أهل الثقافة والفكر، أي من يُسمون بالمثقفين، وذلك لأن بعض هؤلاء أيضاً لم يحسنوا قراءته جيداً.
وقد يقول قائل: كيف يمكن أن يكون المثقفون لم يحسنوا قراءة فكر علي شريعتي وهم أكثر شريحة مطلعة على تراثه ومروجة لآرائه وأفكاره؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من توضيح أمر مهم وهو: أنني ذكرت بأن وقفتي ستكون مع بعض المحسوبين على أهل الثقافة والفكر «المثقفون»، ولكن لم أقل بأنها ستكون معهم بأجمعهم، فعندما أقول «بعض» فإني أقصد ما تعنيه هذه المفردة بتمامها، إذ لا أعني بها الكل، بل ولعلي لا أعني بها الأكثر أيضاً.
وأما للإجابة عن هذا السؤال فأقول: بأن البعض منهم - أو منهن - كثيراً ما يعرضون أنفسهم وكأنهم سائرون على ذات المنهج الذي سار عليه شريعتي، في حين أن ذلك لا أساس له من الصحة، لأنهم في جهة وهو في جهة أخرى، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على المستوى المتدني لفهم المعالم الأساسية التي يتسم بها فكره. وأكاد أجزم بأن هؤلاء لا ينسجمون معه فكرياً إلا في بعض النواحي والجزئيات، وأما في الأمور الأساسية والجوهرية فشتان ما بينهم وبينه.
ولا يظن البعض بأني أبالغ في كلامي هذا، بل هو أمر مبني على اطلاعي ومعرفتي بفكر علي شريعتي من جهة، ومتابعاتي لما يطرحه هؤلاء في جلساتهم أو عبر المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي «كالفيس بوك وتويتر» من جهة أخرى، حيث يخيل لي أثناء قراءتي أو استماعي لما يدلون به بأنهم غير مطلعين على فكره اطلاعاً كافياً، ويمكن بيان هذا الأمر من خلال استعراض ثلاثة فروقات أساسية وجوهرية بينه وبينهم فيما يلي:
أولاً: القراءة الأيدلوجية للدين
من الواضح لكل مطلع على فكر شريعتي أنه يقدم قراءة أيدلوجية للدين، ولذا نجده يوجه المبادئ الدينية من أجل تحشيد الجماهير لتحقيق الهدف أو التغيير الذي ينشده، ولا شك بأن للقراءة الأيدلوجية عيوبها الكثيرة، وذلك لأن سيطرتها قد يحول دون الوصول إلى نتائج علمية سليمة وموضوعية.
وأما بعض المثقفين أو من يحسب عليهم فهم كثيراً ما يحاولون أن يظهروا أنفسهم بمظهر الالتزام الكامل بالمنهج العلمي السليم، إذ يدعون بأن ما يطرحوه خالٍ تماماً من أي أثر أيدلوجي - طبعاً بغض النظر عما إذا كان ذلك صحيح بالفعل أم لا - ولكن المفارقة الفاضحة هي أنهم مع ذلك يعلنون تأييدهم للكثير من أفكار وآراء شريعتي المتأثرة بالأيدلوجيا التي يتبناها، لدرجة نجد بعضهم وربما خلال أسطر معدودة فيما يكتبه يدعي بأن ما يطرحه هو طرح علمي وموضوعي، ولكن بعدها يستشهد ببعض الأفكار أو العبارات المؤدلجة لشريعتي ويؤيدها!
ثانياً: التركيز على مسألة الأصالة والهوية
كذلك يلاحظ بأن شريعتي كثيراً ما يؤكد على مسألة الأصالة والهوية، فهو وإن كان ينقد بعض ما يحويه الموروث الديني «الإسلامي/الشيعي» إلا أنه لا يستهدف بنقده التخلي عنه تماماً، والانطلاق بعيداً في أفق وفضاءات الأفكار التي ولدت من رحم الفكر الغربي، وإنما على العكس من ذلك، حيث يؤكد في معالجاته دائماً على مسألة الأصالة والهوية، ولذا يصر على ضرورة «العودة إلى الذات» كما هو في عنوان أحد كتبه، لأن نقده موجه دائماً للأمور الدخيلة لا للأمور الأصيلة، فنجده مثلاً في كتاب «التشيع العلوي والتشيع الصفوي» ينقد ما أدخله الصفويون على التشيع من أفكار أو ممارسات فيما أسماه ب «التشيع الصفوي»، ولكنه مع ذلك يدافع عن التشيع الأصيل الذي أطلق عليه اسم «التشيع العلوي». طبعاً بغض النظر عن صحة بعض النتائج التي توصل إليها من عدمها، ولكن ما يهمنا هنا هو التأكيد على أصل الفكرة التي يتبناها.
وأما بعض دعاة الثقافة عندنا فهم وإن كانوا يتفقون معه في نقده للموروث الديني، ولكن ليس لديهم أي حرص أو اهتمام بمسألة الهوية والأصالة، بل نجد أنظارهم ومعالجاتهم تتجه دوماً نحو الفكر الغربي وتنسجم معه كثيراً. كذلك أؤكد هنا أيضاً بأني في كلامي هذا لا أريد القول بأن هذا الأمر صحيح أم لا، وإنما أحاول فقط وفقط أن أبين أهم الفروقات التي بينه وبينهم في هذا الجانب.
ثالثاً: خصائص المثقف ومسؤولياته
يعتقد شريعتي بأن المثقف في الرؤية الإسلامية يختلف عن المثقف في الرؤية الغربية، لأن المراد بالمثقف عند الغرب هو من يكون عمله عملاً عقلياً أو فكرياً، وهو ما يقع في مقابل الحرفي الذي يكون عمله يدوياً أو بدنياً، وأما في الرؤية الإسلامية بحسب شريعتي فالمثقف هو من ينطلق لمعالجة مشاكل مجتمعه ولإحداث التغيير الاجتماعي المنشود استناداً على قاعدة عقائدية صحيحة، أي أن دوافعه في تحركاته هي دوافع ومنطلقات دينية لاعتقاده بأنه مكلف بها دينياً، وهذا ما يختلف عن دوافع المثقف في الرؤية الغربية.
وبناءً على ذلك، فلا مانع بحسب رؤية شريعتي من أن يكون المثقف حرفياً ويعمل عملاً يدوياً أو بدنياً، ولكن بشرط أن يمتلك أفقاً واسعاً في التفكير وشعوراً كبيراً بالمسئولية ويمارس نشاطاً فكرياً وعقدياً لحل المشاكل التي يعاني منها مجتمعه. ومن هنا نفهم لماذا يعتقد شريعتي بأن دور المثقف ومسؤوليته في مجتمعه يشبه الدور الذي يلعبه الأنبياء والرسل وأئمة المذاهب القديمة كما يقول في كتاب «مسؤولية المثقف».
وأما بعض مثقفينا أو بعض مفكرينا - كما يحلو للبعض تسميتهم - فمن الواضح بأن مفهوم المثقف عندهم هو نفس المفهوم الذي ينقده شريعتي في الرؤية الغريبة، فهم لا يولون أية أهمية للجوانب العقائدية فضلاً عن أن يستندوا إليها في تحركاتهم، علماً بأن غالبية أدوارهم وتحركاتهم لا تحدث أثراً ملموساً في الواقع الاجتماعي، نظراً لكونها أدواراً شكلية أكثر منها أدواراً فعلية أو حقيقية. وأما عن مسؤوليات المثقف وأدواره، فهي عندهم لا تنطلق عادةً من أهداف دينية؛ إما لاعتقادهم بأن المسؤوليات الدينية هي من شأن رجال الدين فحسب أو لعدم إيمانهم بهذا النوع من الأهداف، وهذا عكس ما يراه شريعتي تماماً!
بناءً على ما تقدم؛ يتضح لنا بعض الاختلافات الأساسية بين فكر بعض من يُطلق عليهم بالمثقفين في مجتمعاتنا وبين فكر علي شريعتي. وليست المشكلة مع هؤلاء في كونهم يختلفون معه كلياً أو جزئياً، فهذا أمر طبيعي ولا إشكال فيه، وإنما في كون بعضهم يحاولون الإيحاء للآخرين «قرائهم أو مستمعيهم مثلاً» بأنهم منسجمون معه في فكره ومنهجه على الرغم من عدم صحة هذا الأمر، فكونهم يتفقون معه في نقد المؤسسات الدينية ورجالها مثلاً لا يعني بالضرورة عدم وجود بعض الفروقات الجوهرية والتي لا يمكن إهمالها أو التغاضي عنها فيما بينهم وبينه، سواءً كانوا يشعرون بذلك أم لا.
ولا يفوتني كذلك أن أشير إلى إشكالية أخرى في كيفية تعاطي هؤلاء مع فكر شريعتي، وهي إشكالية تهدد مصداقيتهم وتضعها على المحك، حيث أنهم كثيراً ما يكتفون بانتقاء وترديد بعض ما يروق لهم من آرائه وأفكاره، بيد أنهم لا يعيرون أي اهتمام للإشارة إلى أخطاءه ومغالطاته، وهم في ذلك يشتركون مع بعض رجال الدين الذين لا يذكرون إلا سلبياته ويتجاهلون كل محاسنه وإيجابياته!
ختاماً أقول: ينبغي على دعاة الثقافة والفكر في مجتمعاتنا أن يتعرفوا جيداً على أهم الركائز والمعالم التي يتسم بها فكر علي شريعتي، وذلك لكي يتسنى لهم بعدها عرض آراءه وأفكاره لقرائهم ومستمعيهم كما هي في حقيقتها وواقعها، كما ينبغي عليهم أيضاً أن يعرضوا فكره بشمولية وبموضوعية تبين ما له وما عليه، وأن يتجنبوا الانتقائية واختزال فكره بكامله في نقد رجال الدين والمؤسسات الدينية.
سلمان عبد الأعلى: كاتب وباحث سعودي من مواليد الإحساء
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |