الدين والعلم بين علي شريعتي ومحمد باقر الصدر
ملاحظة - هذا البحث تم قبوله من مجلس الجامعة ودفع بعض الأساتذة والطلبة لدراسة الفلسفة الإسلامية عمومًا وفلسفه محمد باقر الصدر خصوصًا، وسوف ينشر في اللغة الروسية قريبًا في مجلة الجامعة.
ملخص بحث – قدم إلى معهد الدراسات النفسية
جامعة أوشينسكي لعلوم التربية
من قبل طالب الدكتوراه عبد الباري الحمداني (علم النفس التجريبي).
دعا كل من الدكتور علي شريعتي عالم الاجتماع والمفكر الإسلامي المعروف وكذلك المفكر والفيلسوف الكبير محمد باقر الصدر إلى العودة إلى الذات بعد أن بحثها كل منهما حسب منهجيته من خلال المزج بين العلم باعتباره الطريق الأفضل لتحصيل المعرفة والدين باعتباره نظام ينظم الحياة ويوجه الناس نحو التفكير العلمي فضلاً عن كونه أفضل وسيلة لامتلاك الحقيقة (الحقيقة التي يتوصل أليها الفرد بذاته لا تلك التي تملى عليه كما يقول الصدر أو تلك التي تستحمره وتستغفله كما يقول شريعتي).
عالج كل منهما الفجوة التي ظهرت بين الدين والعلم في أذهان بعض المفكرين وأكدا أن كلاهما يوصلان في النهاية لنفس النتيجة دون أن يلغي أحدهما الآخر، فشريعتي مثلاً يقول إنَّ العلم والدين يجدان رباط ثقافي مباشر للذات الإنسانية، أما الصدر فيرى إمكانية إيجاد مساحة مشتركه بين العلم والدين أكبر من تلك الذي يظن من يؤيد تلاقيهما معا. ولذلك طرح الصدر دراسة تجمع بين الدين والعلم لإثبات الدليل الاستقرائي الذي تقوم عليه المعرفة البشرية من حيث مصادرها وتوظيفها وأساليب تقويمها كما يقول، وذهب لأبعد من ذلك في دراسته الموسومة (الأسس المنطقية للاستقراء) ، حين عد العقل له قدره على إنتاج العلم من خلال انتزاعه للمعنى، وهي قدرة تكوينية(لها أسس بيولوجية)، ولأن قدرة العقل التكوينية تحتاج لمراجعة ذاتها، فهي بحاجة إلى الدين لا لأسباب غيبية أو أخلاقية فقط إنما لا أسباب واقعية (أرضية) وهي معرفية بالدرجة الأساس، فالعلم ضروري لحياة الإنسان على الأرض والدين ضرورة تحيل الإنسان إلى مخلوق كوني أسمى منه أن يعد وجوده يرتبط بحياته الحالية(الدنيا فقط)، وهكذا فالعقل سيضطر في النهاية للتسليم إلى التمسك بكل من الأسباب الطبيعية(العلة والمعلول والسبب والنتيجة)، متبعًا بذلك منهج البحث العلمي وأسلوب التجربة العلمية وكذلك إلى الأسباب الغيبية الخارجة عن نطاق التجريب، فهو أي الصدر يقول إذا كان المذهب التجريبي يعتمد التجربة باعتبارها تثبت ذاتها، فمن هو الذي يثبت للعقل ذات التجربة، وهنا يأتي الدين بمنطق الإيمان لا التسليم والخضوع ليكمل الحلقة ويسد الفجوة التي يتركها العلم لوحده مثلما يحتاج الدين إلى العلم لإيجاد الحجة والبرهان.
عندما طرح علي شريعتي كتابه الموسوم (النباهة والاستحمار) أكد على أن هناك الملايين من البشر في العالم الإسلامي هم ضحية الاستحمار لا الاستعمار، فالأول أخطر من الثاني لان مصدره من داخل الجسد الإسلامي، ومصدره ثلاث جهات مجتمعة ومتضافرة معًا على طول تاريخ المسلمين، وقد لخصها شريعتي بـ(السلطان أو السلطة التي لا تعامل الناس على أساس وعيهم وإنما على أساس استغفالهم أو استحمارهم، ورأس المال الذي يحيل الناس إلى أدوات وأرقام ووسائل لا إلى غايات، والدين لا بعده نظامًا أخلاقيًا ينظم الحياة ، إنما بعده سلطة يتحكم بها المتدينون برقاب العباد، فهو يقول ليس الخوف من الدين لكن من تصنيع الدين، ويعرج ليقول الفهم الاجتماعي الخاطئ للدين) وهؤلاء الثلاثة يحتاجون إلى الجهل لا إلى العلم ويحتضنون الجهلة لا العلماء لاستحمار عباد الله، وبهذا المعنى فقد طرح شريعتي مفهوميّ النباهة التي مادتها العلم ومحركها الدين وأرضيتها الوعي والاستحمار الذي مادته الجهل ومحركه الفهم الاجتماعي الخاطئ للدين وأرضيته الفقر المادي والمعنوي.
يقول شريعتي إنَّ العالم الإسلامي اليوم (في عقد الستينيات من القرن العشرين)، هو أسير حرب الجهل والانحطاط الاجتماعي والفقر، إنَّ الناس هنا لا يفكرون في المجهولات الفلسفية ولا في قضايا المادة والطاقة، إنهم مشغولون تمامًا في التفكير بالقضاء على الصدأ والأمراض الاجتماعية التي أصابتهم، كيف يتخلصون منها وكيف يصيغون حياتهم من جديد، وكيف يعرفون حيل العصر واستغلاله، ويستطرد حديثه بنموذجين أحدهما يمثل العلم والآخر يمثل الدين، يقول شريعتي: حينما كنت طالبًا في الجامعة قدم لي رئيس الجامعة وأستاذي الدكتور فياض رجلاً زار إيران مؤخرًا وقال لي كن رفيقًا به ورفيقًا له ، كان الضيف عالمًا يحمل الدكتوراه في علم الإنسان الثقافي من جامعة هارفارد العريقة، يؤمن تمامًا بالبحث العلمي لجمع المعلومات بغية التحكم بالظاهرة اجتماعية كانت أم طبيعية، ولهذا فهو يريد البقاء في مشهد عدة أيام ليقوم بدراسة آثارها التاريخية، وثقافتها ودينها وآدابها وعادات سكانها، وهو لهذا السبب تعلّم الفارسية واطلع وأتقن التصوف الفارسي، وهما البنية التحتية لعلم الإنسان الثقافي في الجامعات الإيرانية.
ويتابع شريعتي.. تعجبت من موضوع دراسته التي جاء لإيران من أجلها (الدين عند سكان شيراز في المائة سنة الأخيرة)، وتعجبت من منهجيته في مسح المساجد مسجدًا مسجدا، أحصى أعمدتها وأقطار المآذن فيها وأطوالها وأشكالها وأنواعها وألوانها وزخارفها وبحث بدقة أوقاف المساجد وأئمة الصلاة والمقابر وصلوات الجماعة ومعدل تردد الناس على كل مسجد والتعازي والفتاوى وكل صغيرة وكبيرة، وقلت في نفسي أنا المسلم الإيراني(شريعتي) لا بدَّ لهذه المعلومات من قيمة علمية، وكنت أسأله بين فترة وأخرى وهو يجيب بابتسامة ورحابة صدر، وفي النهاية تعلمت منه كيف أُفرق بين أن أقول (أنا اعلم وأنا أظن)، والحقيقة أنها درجة من العلم لا تتحصل بسهوله، هذا هو النموذج الذي يمثل العلم، أما النموذج الذي يقدمه شريعتي ليمثل الدين، فهو (أبو حنيفة)،الذي أجاب على ثلاث مسائل من بين خمس بكلمة (لا ادري) لامرأة من عامة الناس، ولم يخرج جوابًا جاهزًا من جيبه، يخرجه على الفور.
هذان النموذجان يظهران الالتزام العلمي حسب شريعتي، والعلم والدين يمكن لهما أن يشكلا حركة الإنسان والمجتمع إذا أظهرا الالتزام.
ولنعد لمحمد باقر الصدر، ولدراسته التي أشرنا إليها في مطلع الملخص، والتي نجح فيها تمامًا حسب المحققين والدارسين من مختلف المشارب، نجح في برهنة حقيقة في غاية الأهمية من الناحيتين العقائدية والعلمية ، والتي أكد من خلالها أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة (التي يؤكد أهميتها)، هي ذات الأسس التي تقوم عليها الاستدلالات لإثبات الصانع المدبر لهذا الكون وقد أكد على أهمية الطابع التجريبي على إثبات وجود الله سبحانه وتعالى.
ويرى الصدر إن القرآن الكريم – بوصفه الصيغة الخاتمة لأديان السماء – قد قدر له أن يبدأ بممارسة دوره الديني مع تطلع الإنسان نحو العلم، وأن يتعامل مع البشرية التي أخذت تبني معرفتها على أساس العلم والتجربة.
والحقيقة إن اختصار موقف الصدر في هذه العجالة قد لا يفي بوقفته للتوفيق بين العلم والدين والدعوة لهما معًا، ولنشير لهذه الدراسة اختصارًا:-
حدد الصدر موقف المذهب العقلي في إثبات الدليل الاستقرائي لأصل المعرفة البشرية، وانتقد مذهب أرسطو لأنه خلط بين مفهوميّ الاستقراء الناقص والاستنباط وبالتالي فهو يعلق الإنسان بين الأرض والسماء دون أن يعطي للعلم أو الدين وظيفة اجتماعية، وقد انتقد المذهب التجريبي بمختلف اتجاهاته، لأنه يحول الإنسان إلى رقم من الأرقام أو مادة من مواد المختبر، وبهذا انتقد المدرسة السلوكية في علم النفس وانتقد الاتجاه الفسيولوجي لا باعتبارهما اتجاهين خاطئين من الناحية العلمية وإنما اخطئا في منطقهما القائم على أساس الإفراط في تعميم نتائج البحوث على الحيوانات وإسقاطها على السلوك البشري، كما أنه انتقد نظرية الاحتمال وطريقتها في تحويل الاستقراء إلى يقين في حين هو خطوة من بين العديد من الخطوات باتجاه اليقين، وقد عالج الصدر ذلك علميًا مبتعدا عن لغة التعميم وللقارئ أن يعود لدراسته في هذا الصدد.
وهكذا فقد زاوج كل من شريعتي والصدر بين وظيفة العلم والدين باعتبارهما من الدوافع الأساسية والوسائل المهمة التي تدفع وتساعد الإنسان على اكتشاف ذاته.
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم.
|