رؤية شريعتي للتقريب المذهبي
بقلم: محمد محمود
كان من اللازم في ظل ما تعيشة الأمة من تفتت وانقسامات وتشرذم وخلافات بل وحروب يطفو المذهبي فيها على السياسي، أن نستعيد ونستذكر بعض الأصوات العاقلة الهادئة عسى أن تكون هذه الكلمات حجراً في بركة راكدة.
يُعد فيلسوف الثورة الإسلامية في إيران الشهيد الدكتور علي شريعتي الملقب بـ"المعلم" واحداَ من القلائل الذين تجردوا عن هوى التمذهب والتشدد أو التخاصم، وسعى بكل ما أوتي من قوة إلى لملمة الصفوف تجاه الوحدة بل إنه خصص كتاباً يُعد معلماً من معالم الفكر الشيعي في العصر الحديث ألا وهو "التشيع العلوي والتشيع الصفوي".
ولد علي بن محمد تقي شريعتي في مزيتان في منطقة خراسان في العام 1933 نشأ في أسرة متدينة معروفه بالفقه والعمل، ونشط وهو في الثانوية العامة في التيار الذي قاده رئيس الوزراء السابق مصدق ثم تخرج بتفوق من كلية الآداب ليُرسل في بعثة دراسية لفرنسا، ويحصل على شهادتين للدكتوراه، واحدة في علم الاجتماع الديني والأخرى في تاريخ الإسلام، وهناك كان على اتصال بجبهة التحرير الجزائرية والتقى مفكري فرنسا البارزين أمثال فرانز فانون وسارتر، ثم عاد إلى إيران ليؤسس"حسينية الإرشاد" وهو المعهد الذي هاجم فيه تعصب البعض من رجال الدين من الشيعة ضد السنة، ثم ما لبث أن اعتقل مرات في فرنسا وفي إيران لتبنيه أفكاراً إصلاحية ثورية كبناء الدولة الإسلامية وإعادة صياغة الذات والمجتمع اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً على نحو إسلامي حقيقي، كما اهتم بجوهر المساواة والعدل وتنقية الإسلام مما شابه عبر القرون. خلف لنا نحو مئة وعشرين عملاً مابين الفلسفي والأدبي والاجتماعي والسياسي كلها تتخذ من الإسلام القبس، توفي في لندن في العام 1977 وهناك روايات تقول أنه أستشهد علي يد جهاز المخابرات التابع للشاه- آنذالك- السافاك.
يشيد شريعتي بالرؤية التي تمتع بها شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت وإخوانه في تدعيم حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية ويصف هذا الدور بالواعي والمسؤول، ويثني على النفوس العالية التي تأبى الهزيمة أمام دسائس المتصيدين في الماء العكر من أعداء الداخل والخارج.
انتشار العدوين وانحسار الأخوين
يعزو شريعتي انتشار الخلاف والخصام المذهبي إلى ما يُسميه انتشار العدوين المتآخيين "التشيع الصفوي والتسنن الأموي" وانحسارالأخوين "التشيع العلوي والتسنن المحمدي"، فما هو التشيع الصفوي والتسنن الأموي؟
التشيع الصفوي نسبه إلى الدولة الصفوية التي حكمت إيران وقال حكامها أنهم ينحدرون من نسل الإمامة ليضفوا شرعية زائفة على سلطتهم الزمنية، ويرى شريعتي أن الحركة الصفوية ورجال الدين المرتبطين بها عملوا على إضفاء الطابع المذهبي وبعث القومية الإيرانية والوطنية لتبدو في صورة وشاح ديني أخضر، وركزت أجهزة الدعاية الصفوية على نقاط الإثارة والاختلاف بين السنة والشيعة وأهملت نقاط الاشتراك، وحرصت على تعطيل أو تبديل أو إهمال الشعائر والسنن والطقوس الإسلامية المشتركة بين المسلمين. في المقابل هناك التسنن الأموي الذي استغل عنوان المذهب السني لتمرير المخططات الرامية لفرض الهيمنة على مقدرات الشعوب، وتبرير أعمال السلاطين، والتبرع بالأحكام والفتاوى الجاهزة، لتتناغم مع التوجه الرسمي للحكومات، فالتشيع الصفوي وقرينه التسنن الأموي كلاهما مذهب اختلاف وشقاق، والحقد والضغينة هي من خصائصهما، لأن كليهما يمثلان الإسلام الرسمي، وكلاهما دين حكومي، الأول لتبرير الحكم الصفوي والثاني لتبرير الوجود الأموي في موقع الخلافة.
ويرد مفكرنا على التخاصم والتقاذف الحاصل بين أنصار التشيع الصفوي وبعض رجال التسنن الأموي بأن غرض هذه الأمور هي خلق الأحقاد بين المسلمين، واستغفال الأذهان لمسائل هامشية وقضايا مفتعلة، وكل ما من شأنه الإساءة إلى حقيقة الولاية، والشيع العلوي والمنهج الحسيني وتشويه صورة الحوزة العلمية الشيعية الكبرى في أذهان الجيل المثقف.
أما التشيع العلوي فهو حركة ثورية، تمارس الجهاد فكراً وسلوكاَ، لتواجه الأنظمة ذات الطابع الاستبدادي والطبقي، وهذا التشيع يتبنى إقامة العدل، ورعاية حقوق الجماهير المستضعفة، وهو تشيع الوحدة والسنة، فشعار هذه المدرسة هو ثقافة الاستشهاد ونشر الحق وإقامة العدالة، وإن الشيعي العلوي هو الذي يسير على خطى ونهج الإمام علي بن أبي طالب.
ويخلص شريعتي إلى أن الحل في أسلوب الطرح، والنهج المتبع في المناقشة والاحتجاج، فالسبيل الوحيد الكفيل بتحقيق ذلك هو توفير قاعدة علمية مشتركة وراسخة بين الأَخوين المستعدَيَيْن "التشيع العلوي" و"التسنن المحمدي" لمواجهة العدوين المتآخيين "التشيع الصفوي" و"التسنن الأموي".
ويصل بشريعتي الأمر إلى القول بأن "الاختلاف بين التشيع العلوي والتسنن المحمدي ليس أكثر من الاختلاف بين عالمين وفقيهين من مذهب واحد حول مسألة علمية... وأن التشيع العلوي والتسنن المحمدي طريقان متلاقيان من يسير في أحدهما لابد أن يأتي اليوم الذي يلتقي فيه مع صاحبه ليصبحا معاً وحدة واحدة" وفي المقابل فإن "المسافة بين وجهي التشيع العلوي والتشيع الصفوي هي عين المسافة بين الجمال المطلق والقبح المطلق".
نموذج علي مؤسس "الوحدة الإسلامية"
يقدم الشهيد شريعتي شخصية إمام المتقين ورابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب، كنموذج حي وراقٍِ، لعملية تأسيس الوحدة الإسلامية والترفع عن الخلافات، والسعي المتواصل نحو التوحيد لا التشتيت، فيقول عن علي بن أبي طالب" كان أول من وضع حجر الأساس وأرسى قواعد الوحدة في المجتمع الإسلامي، أول من قدم القرابين وضحى، وتحمل أثقل ضريبة، ودفع أغلى الأثمان التي يمكن للإنسان الراقي والسامي لمستوى الكون أن يدفعها من أجل الوحدة" وهو يقدم شخصية الإمام باعتبارها باعثة على التمسك بشعار الوحدة، وشعار التفاهم، وشعار المسيرة الواحدة، والصف الواحد ضد العدو الخارجي، بل إنه يسرد بعض الأمثلة التاريخية المعبرة عن المنطق المعتدل المنصف للتشيع العلوي كاستعانة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بالإمام علي في بعض المسائل الفقهية أو المشكلات الحياتية، وهذا المنطق يضاهي في إعتداله منطق علماء التسنن المحمدي فمثلا كان علماء التسنن المحمدي يقرون بالفضل للإمام جعفر الصادق، وهذا الإمام الشافعي يعلن محبته لآل البيت، وذاك الإمام مالك بن أنس يرفض أن يُعمم على المسلمين فقهه بقرار من الخليفة المنصور، ويعلن شيخ الأزهر محمود شلتوت عن فتواه بجواز التعبد بالمذهب الجعفري، هذه مجرد أمثلة يضعها كاتبنا ليوضح الفرق بين منطقين.
قيام إسلام رسالي أممي بلا مذاهب
يرى شريعتي في المرحلة الثالثة من مراحل العودة إلى الذات الإسلامية ضرورة العمل على قيام إسلام عالمي أممي، لا تُكونه قومية أو عرقية أو نعرات مذهبية، بل يكون الإسلام الرسالي هو الجنسية وهو الوطن، ويعطي مثالاً بـ"اتحاد الغرب الرأسمالي مع الغرب الشيوعي، وبالأمس كان اتحاد المسيحية والاستعمار أو توافق المسيح والقيصر "وبالتالي" فلابد من قيام العالمية الإسلامية" وينبغي أن "تسكت الخلافات المذهبية تماماً وأن تُدرك مصادرها وتبعاتها وعواقبها والأيدي التي تحركها، وهي الأيدي نفسها التي تحرك مبدأ فصل الدين عن السياسة وتقصد بالدين الإسلام فحسب".
دور العلماء في النظر للآخر المذهب
ينادي كاتبنا بأعلى صوته على العلماء من الطرفين فيخاطب علماء الشيعة ويقول "على علماء ومفكري الشيعة أن يوضحوا أن أجهزة الدعاية للتسنن الأموي تستغل الأقاويل والمزاعم التي يتشدق بها رجالات التشيع الصفوي للإساءة إلى كل الشيعة، وتشويه صورتهم عند إخوانهم السنة، وفي المقابل فإن أجهزة دعاية التشيع الصفوي تفعل الشيء نفسه، فتقتنص أقاويل ودعاوى ومزاعم النواصب والوهابيين وتلصقها باسم السنة جميعاً".
ويحث علماء السنة علي التحري والتروي فيقول: "على العلماء المخلصين من السنة أن يفندوا هذه المزاعم ويدفعوا هذه الشبهات التي تثار ضد إخوانهم من الشيعة وليقولوا لأبناء جلدتهم أن الشيعة هم من صلب الإسلام لا غير، ليسوا أعداءً للمسلمين، ولا حلفاء للصهاينة... لكي لا يقعون في شرك الأعداء وينشغلون عن معاداة اليهود والذين تسللوا إلى عقر دار المسلمين بمعاداة إخوانهم الشيعة".
هكذا رسم لنا شريعتي صورته عن التقريب بين أهل المذاهب بقبول الاختلاف وإحسان الظن والبعد عن التشنجات وإعادة قراءة التاريخ وأحداثه بصورة نقدية ومغربلة، كي لا نقع في خطيئة التراشق بالتكفير والزندقة وأن ننتبه إلى ما ينسجه أعداءً الأمة للوقيعة بين أصحاب الملة الواحدة.
مجلة النور / العدد 182
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |