|
إن ترجمة هذا الكتاب- التي طالت قرابةَ عامٍ مع انشغالاتي الحياتية ودراستي- كانت حياةً أخرى أعيشها خارج دائرتي المعتادة. "نحن وإقبال" يختلفُ روحاً عن "هبوط"، يتشاركُ معه في غربة الإنسان الواعي وتصحّر قلب العاشق الحقيقي على هذه الأرض. إقبال هو إنسانٌ آخر يُضافُ إلى الذين يعبدهم علي شريعتي، رمزٌ آخر هو من رموز الإصلاح الإسلامي والإسلام الإصلاحي، عُرفَ عنه الكثير، وكثيرٌ ظلّ خفياً حول هواجسه وأفكاره ورغبة التغيير والإصلاح في وجدانه. نورٌ كثيرٌ بثّه "شاندل" أو شريعتي صوبَ محمد إقبال اللاهوري، فوجدتُني أعرفُ الأخير وأحبّه، وأتوق لقراءته، وللتعرف على إسلامه الخصب وفلسفته وسياسته وجهاده وبحوثه وعرفانه وشعره وثقافتَيه الغربية والشرقية. نظير برغسون من وجهة نظر الفلسفة الأوروبية والغربية، ونظير الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي في رأي شريعتي. ورغم كل تلك الأسئلة والتساؤلات التي حاقت بمسيرة السيد جمال الدين الأسد آبادي الأفغاني ومحمد عبده والقراءات المتباينة لحركتهما الإصلاحية، وجدتُني أقف وقفةَ مراجعةٍ وتحقيقٍ أمام قراءة شريعتي لهما، تماماً مثلما دعاني سابقاً إلى إعادة قراءة سارتر ونيتشه وحتى ماركس، ففهمتُ بعد إتمام قراءتي ل"نحن وإقبال" المقولة القائلة بأن كلّ شخصيةٍ إصلاحيةٍ تنهض من رحم الظلامية والجهل والشؤم السياسي والصراع التاريخي ما بين التراث والحداثة، إنما تكون عرضةً لمحاربة الداخل ومكائد الخارج، لأنها رموزٌ عرفت الخلل وأدركت العلل فرامَتِ التغيير وتسلّحت بالعزيمة والإقدام، حتى وقعت ضحية الاتهامات والأباطيل تارةً، وتارةً فريسة فخ الماسونية التي انطلقت براية الثورة الفرنسية "حرية، إخاء، مساواة" ثم ما لبثت أن آلت إلى مخطّطٍ شيطانيّ.
لقد نظر شريعتي بعين القلب إلى كل مفكّرٍ مصلح، فتمكنّ من تشخيص سلوكه ومسيرته تشخيصاً اتسم بالإنصاف. إن شريعتي لم يكن ليصغيَ إلى من قال كذا عن إقبال والأفغاني وعبده وسواهم، بل إنه أبحر في سِفر ما قاله وقدّمه كلٌّ من هؤلاء، فكان خيرَ مقتدٍ بخُلقِ عليّ بن أبي طالب.
إقبال المتأثر بمولانا جلال الدين شِعراً، وبالصوفية الأصيلة ما قبل شطحات التشدد فلسفةً، وبالإسلام الوسطيّ البعيد عن الإفراط والتفريط ديناً، إقبال الذي جاب العالم شرقاً وغرباً وعاش تجربة التعلم والتعليم في الصفوف الأوروبية، والذي أسس "باكستان" أو الأرض الطاهرة لجمع مسلمي البنجاب وكشمير والسند وبلوجستان والبنغال في أمةٍ واحدة، شاعر الإسلامِ إقبال، لم تبعده فلسفته ولا قصائده ولا أدبه ولا كلّ مجده في سنٍّ صغيرةٍ، عن الانهمام بوجع المسلمين في شرقه المنكوب. كان هذا الهم هو ما دغدغ في ضمير شريعتي حسَّ الرسالة، الرسالة المحمدية والإسلام المحمدي. أوليست تلك سمات الذين سار شريعتي على نهجهم مسحوراً بطريقتهم؟
بوصلةٌ لا تغيّر في وجهتها.. لأن القِبلة واحدة، من إيران والهند ومصر بل حتى من أوروبا وما خلف البحار والمحيطات من بلادٍ وشعوب.
ومثل كلّ آثار المعلم شريعتي، فإن هذا الكتاب أضاف ليَ الكثير، قراءةً ثم ترجمةً، حيث إني تعلّمتُ من صعوبة العبارات الفارسية الطويلة، بأن لا أتسرّعَ في فهم الفكرة قبل انتهاء الجملة وبلوغ الفعل والفاعل. إنه أسلوب علي شريعتي، أن يأخذك في رحلةٍ قد تطولُ صفحاتٍ، قبل أن يدهشَك إتمامُ العبارة.
إني ألتمسُ العذرَ والتفهّم في مواضع الخطأ أينما كان، فالإبحارُ مع شريعتي كثيراً ما يسلبُني التعبيرَ اللفظي، حيث يكونُ تمثّلُ الصورةِ حاضراً بقوة، والاندفاع إلى ترجمة الفكرة قبل العبارة، أقوى.
هنا صبرٌ طويل، وشوقٌ غامر، تختبرهما وأنت تخطو في هذا الوادي الأجرد القابع فيما بيننا: نحن وإقبال.
|
