ذكريات الدكتور مصطفى شمران عن
مراسم أربعين الدكتور شريعتي في
لبنان
بقلم: د. مصطفى شمران
عندما جاء الدكتور إلى أوروبا أخبروني أنه في باريس وأنه يريد أن يراني، وأن الإخوة يعدّون جوازات سفرهم للخروج أيضاً للقائه، وخططنا لنأتي به إلى لبنان لنوجد في لبنان مركزاً فكرياً كبيراً لجميع مسلمي العالم،وندعو المفكرين الكبار من أمثال الدكتور شريعتي لنسلمهم هذا المركز الفكري والعلمي. لكن في الوقت الذي كنّا نعدّ أنفسنا للسفر ولقائه بلغنا خبر استشهاده (1) .
وفي خضم الضغط الروحي الشديد أحسسنا بالواجب لتأمين مدفن له قرب مرقد السيدة زينب، ذلك لأن نقل الشهيد الدكتور شريعتي إلى إيران في تلك الظروف لم يكن أمراً مناسباً، وعليه فرغم الألم والغم والأسى بذلنا جهدنا لإيجاد مكان مناسب لدفنه قرب مرقد السيدة زينب، وإننا في هذا المجال مدينون بالدرجة الأولى لقائد المسلمين الشيعة في لبنان الإمام موسى الصدر لأنه منذ أن بلغه خبر استشهاد الدكتور شريعتي أبدى استعداده للمساعدة ولحلّ أي معضلة تواجهنا، وأكّد استعداده لتنفيذ أي فكرة نستحسنها، وهكذا فعل، حيث اتصل بالحكومة السورية واشترى زاوية من روضة السيدة زينب ، وكانت قد أعدت لأحد شخصيات سورية لتخصص لدفن الدكتور شريعتي، وحصل على إجازة لإدخال جسد الشهيد الدكتور شريعتي إلى الحرم، وبقي الجسد من الصباح إلى الظهر، وأمّ الإمام موسى الصدر الصلاة على جنازة الدكتور، بحضور ومشاركة عدد كبير من الإيرانيين والشخصيات والزعماء اللبنانيين والسوريين والمقاومة الفلسطينية، ولعلها كانت من أكثر اللحظات إيلاماً وتأثيراً عندما نقل جسد الدكتور علي شريعتي من ضريح ( الحرم الداخلي ) السيدة زينب إلى المقبرة، وقد أمر الإمام موسى الصدر بوضع جسده على الأرض، فتحدّث عدد من الشخصيات الفلسطينية واللبنانية وغيرهم، ثم أعيد حمل الجسد إلى المقبرة، وقد حمل تابوته أفضل وأقرب أصدقائه، ثم أدخل القبر، وصلى الإمام موسى الصدر عليه صلوات مختلفة، وأهال أصدقاؤه على جسده التراب، وبدأ السيد دعائي (2) ( الصديق القديم ) بقراءة مقاطع من كتاب الشهادة للدكتور شريعتي بصوته الشجي، ثم تجدّث الدكتور يزدي عن حياة الشهيد الدكتور علي شريعتي بالتفصيل، ثم ألقيت أنا المرثية المعروفة التي تثير الأحاسيس والعواطف العرفانية، ثم أسرته وابنه إحسان، واجتمعنا هناك وبقينا في الشام عدة أيام في منطقة السيدة زينب، وكان دأبنا هو زيارة قبر الدكتور شريعتي وتذكر ذكرياته الجميلة والمرّة، ثم توجهنا إلى بيروت.
في بيروت قررنا أن نقيم مراسم أربعين الدكتور علي شريعتي ، وأن ندعو شخصيات بارزة وقادة ثوريين من أنحاء العالم للمشاركة في تلك المراسم، فشاركت فيها (18) منظمة ثورية منها: المنظمات الفلسطينية المقاومة، منظمة تحرير أرتيريا، البوليساريو من الجزائر وحركة أمل وغيرهم. مما أثار مخاوف النظام الإيراني الملكي، ووضعت الحكومة الإيرانية كل إمكاناتها في لبنان تحت تصرف سفير إيران الجاسوس منصور قدر ليمنع إقامة تلك المراسم. وكان مقرراً أن يقام الإحتفال في قاعة الأونيسكو التي تعتبر أكبر قاعة رسمية في لبنان، ووزعت بطاقات الدعوة ونشرت الإعلانات على أساس قاعة الأونيسكو، لكن في اليوم الأخير أعلنت الحكومة اللبنانية عن معارضتها لذلك، ووقع شجار شديد بين الإمام موسى الصدر ووزير الثقافة اللبناني، وكان واضحاً أن الحكومة الإيرانية ومنصور قدر السفير الإيراني الخبيث في لبنان قد مارسوا ضغوطاً عبر الرشوة والقوة لدفع الحكومة اللبنانية لإلغاء الإحتفال. وفي اللحظات الأخيرة استبدل مكان الاحتفال ليقام في المدرسة العاملية وسط بيروت، وهي مدرسة للمسلمين الشيعة. ووقف جمع من شبان أمل في الشوارع المؤدية للإحتفال وأمام الأونيسكو لإرشاد الضيوف المشاركين إلى مكان الاحتفال، وقد شارك في تلك المراسم آلاف اللبنانيين وامتلأت القاعة وأنحاء المدرسة وساحتها وجدرانها والطرق المحيطة بها بصور الشهيد شريعتي وآية الله الخميني والطالقاني وشهداء الثورة الإسلامية في إيران، وكنت قد رسمت عدة لوحات كبيرة لصور الدكتور شريعتي.
وكان من بين الشخصيات البارزة التي شاركت في الاحتفال ( ياسر عرفات ) قائد الثورة الفلسطينية الذي أظهر تكريمه واحترامه الشديد للدكتور شريعتي ولأسرته المحترمة، وألقى واحدة من أشد وأقوى خطبه، قال فيها أن أمل هي فتح وفتح هي أمل.
وتحدث المفكر الفلسطيني ( شفيق الحوت ) الذي دافع عن الثورة الإيرانية واعتبرها حركة فريدة من نوعها، وكانت الكلمة الأهم لسماحة الإمام موسى الصدر الذي أثر بكلامه على الكثيرين، ثم تحدث من الإيرانيين ( صادق قطب زاده ) ممثلاً الجامعيين والثوريين في الخارج، وأخيراً تحدث ( إحسان ) إبن الدكتور علي شريعتي فختم الاحتفال بكلمته المحببة.
وعندما فشل المتآمرون اللبنانيون عن منع إقامة هذا الاحتفال الكبير، وفشلت مخططاتهم، قام زعيم الحزب الحليف لأمريكا والمتعاون مع إسرائيل (3) بأشد هجوم إعلامي ضد الإمام موسى الصدر واعتبر الدكتور علي شريعتي شيوعياً.
واتهم الإمام موسى الصدر بأنه أقام ذلك الاحتفال الكبير من أجل رجل شيوعي. وردّ عليه الإمام موسى الصدر من خلال الصحف مؤكداً أن الشهيد شريعتي كتب أكثر من (150) كتاب إسلامي وفلسفي، وأنه من مفاخر المفكرين المسلمين، فكيف يتهمه أحد بالشيوعية (4) . وفي اليوم التالي ردّ الرجل بقوله إن الدكتور شريعتي شيوعي مائة بالمائة، بل مائة وخمسون بالمائة، ووزع تهمه وشتائمه هذه المرة على الإمام موسى الصدر شخصياً، وفي نفس اليوم قامت القوات اليمينية الفاشية (5) في حنوب لبنان العملية لإسرائيل برفقة القوات الإسرائيلية بقصف مواقع المقاتلين المؤمنين في جنوب لبنان وخاصة في بلدة ( الطيبة ) فدمرت مقرّاً لهم، فتوجهت بنفسي في اليوم التالي لزيارة المنطقة.
وعندما عدت من زيارة الجنوب التقيت بالإمام موسى الصدر فجاء إليه رئيس جهاز الأمن اللبناني، وهو لا يعرفني طبعاً، فأخبره أن الحكومة الإيرانية طلبت منا تسليمها الإيرانيين ( صادق قطب زاده والدكتور شمران ) فوراً.
فأجابه السيد موسى الصدر أن ( قطب زاده ) ذهب إلى سوريا، وليس في لبنان، والدكتور شمران في جنوب لبنان في متاريس ومواقع المقاتلين الذي يواجهون إسرائيل، يمكنكم الذهاب إلى الجنوب واعتقاله. ولم يكن حينها للحكومة اللبنانية وللجيش اللبناني حضور هناك، وكانت تلك صفعة وجهت لمسؤول الأمن اللبناني الذي جاء لينفذ طلب السفير الإيراني (منصور قدر) .
وفي نفس الليلة اصطحب الإمام الصدر ( صادق قطب زادة ) بسيارته ونقله إلى الشام، ومن الشام غادر إلى أوروبا في نفس الليلة ليكون في مأمن من خطر ( السافاك ) وعملاء الصهيونية الخطرين. وهذا التحرك يدلّ على مدى خوف المستعمرين وأجهزة الشاه من الضربة التي تلقوها، ومدى حشدهم للحد من انتشار أفكار الدكتور شريعتي. ثم قاموا بعد ذلك بإرسال (60) معمّم من إيران إلى لبنان، ليتحدثوا على المنابر في جنوب لبنان وشماله وفي مختلف القرى للتبليغ بأن الدكتور شريعتي كان كافراً، وأن الإمام موسى الصدر صلى عليه ودفنه في الروضة الزينبية، لذا فهو كافر أيضاً، وبثوا التهم ضد الإمام الصدر مما شكل مصدر إزعاج حقيقي له. وانهالت على الإمام موسى الصدر رسائل التهديد من إيران والعراق تؤنبه لتكريمه الدكتور شريعتي وإقامته حفل الأربعين.
أما نحن فإننا نعتقد بأن الدكتور شريعتي قد أوجد حركة ، ويعتبر أكبر فخر للجيل الشاب والمؤمن، وكل ما فعله لأجله فهو قليل (6) .
الهوامش:
1 المرحوم شريعتي توجه أولاً إلى بلجيكا ومنها إلى فرنسا وبعدها مباشرة إلى لندن حيث كانت وفاته رحمه الله.
2 السيد دعائي عضو مكتب الإمام الخميني، سفير إيران في العراق بعد انتصار الثورة الإسلامية، ورئيس تحرير صحيفة اطلاعات حالياً، ومن الشخصيات التي لعبت دوراً سياسياً هاماً من خلال مجلس الشهورى الإسلامي وغيره من المناصب .
3 يقصد كميل شمعون زعيم حزب الوطنيين الأحرار الذي كان زميلاً للشاه في محفله الماسوني، وأحد حلفائه، وكانت هناك لقاءات في طهران بين الرجلين .
4 معلومات شمعون عن شريعتي كان قد استقاها من منصور قدر في مكالمة هاتفية بينهما .
5 هذه القوات كانت تابعة لشمعون وتنسق مع إسرائيل .
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |