علي شريعتي والعودة إلى الذات
بقلم: إبراهيم غرايبة
يعد المفكر الإيراني علي شريعتي (قتل عام 1977) من أهم المراجع الفكرية الإسلامية الذين أسسوا للصحوة الإسلامية المعاصرة في العالم والتي تشكل اليوم أهم حدث سياسي عالمي. ولد شريعتي عام 1933 في محافظة خراسان الإيرانية، وشارك مع طالقاني وبازركان في جبهة وطنية إسلامية معارضة للشاه، وسجن عام 1958، ثم أفرج عنه وتخرج من الجامعة، وسافر في بعثه دراسية إلى فرنسا، ونال درجة الدكتوراه في علم الاجتماع، ودكتوراه أخرى في تاريخ الإسلام، وشارك في فرنسا في النضال العالمي الذي نضج في الستينيات لأجل الاستقلال والنهضة في العالم الثاني، ثم عاد إلى إيران، وعمل في التدريس الجامعي، وبدأ يتعرض للاعتقال والتضييق، ثم فصل من الجامعة ليعمل في قرية نائية.
انشغل شريعتي بإصلاح الحالة الإسلامية ومراجعتها، وبدأ يعمل من خلال حسينية الإرشاد التي كان والده محمد شريعتي من مؤسسيها مع عدد آخر من المثقفين الإسلاميين في إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وتصحيح منابع التراث الشيعي والترجمة، ولكن السلطات الإيرانية أغلقت الحسينية عام 1973، واعتقلت شريعتي الأب والابن، إلى أن أفرج عنه عام 1975 بوساطة جزائرية، ثم سافر إلى لندن عام 1977، ولكنه توفي بعد شهر في ظروف غامضة، وترك وراءه تراثا فكريا وفلسفيا ضخما يتكون من حوالي مائة وعشرين عملا.
بدأت فكرة كتاب العودة إلى الذات في محاضرتين لشريعتي طبعتا في كتاب، ثم أعيد إنتاجهما مع مساهمات أخرى شبيهة ومكملة لهما. يرى شريعتي أن تشكل المجتمعات عقائدها وأفكارها بأنماط واتجاهات محددة، وكل عنصر في المجتمع من مفكر وأديب ومتدين وعامي ورجعي وتقدمي له قالبه المحدد وعلاقته ولغاته المفهومة، وكل منهم عليه أن يحدد انتماءه الطبقي، ويعلن عن قاعدته الاجتماعية والأيدلوجية التي يعتنقها، حتى يجد من يؤيده في فكره، ولكن البعض لا يجد الفرصة لاختيار قالب من هذه القوالب، ومثل هؤلاء يبقون غرباء ولا يملكون الضوابط المعلومة للاختيار.
لكن الواقع يبين خلاف ذلك عندما ننظر إلى آسيا وأميركا اللاتينية فقد تبدلت المجتمعات الذليلة المستغلة من قبل المهيمن الغربي إلى مجتمعات من الحياة والفكر والحركة، ولا شك أن سبب المعجزة هنا عامل واحد هو الوعي.
هذا الوعي الذي يطلق شرارة في المجتمعات، هي شرارة الوعي المقترن بالعشق والإيمان، هو النوع الذي يحدث فيخلص المجتمع من كل الأشياء التي ترسخت عبر القرون من الاستعمار والمعتقدات الموروثة والقوالب القديمة، ومن بين عدم الأصالة وعدم المسؤولية يقوم فجأة مجتمع ذو جسد واحد وهدف واحد مجتمع إنساني بالمعنى الذي يقصده "فرانز فانون" بقوله: مجتمع ذو عرق جديد وجلد جديد وفكر جديد.
فالعودة إلى الذات هو الشعار الذي طرحه المفكرون كآخر تجربة ثقافية مضادة للاستعمار، ولكن إلى أي ذات نعود؟ إننا نملك ذاتا قديمة ترجع إلى العصور التاريخية السحيقة، ولكن الإسلام شكل جذورا للعالم الإسلامي جعل الذات الإسلامية هي موضع الرجوع والعودة على نحو يبعث على الوعي والتقدم يتغلب على كل ذات أخرى.
التحضر يعني موت الاستعمار في كل صوره، العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، والحضارة تعني صنع التاريخ، وهو العمل الذي قام به الرسول محمد عندما جعل من البدو في صحراء قاحلة يحطمون أقوى امبراطوريات الهيمنة ويهبون النضج لكل حضارات الإنسان وثقافته، ولا شك أنها تجربة إنسانية وإسلامية هائلة تجعل العودة إليها مصدرا للوعي والمعجزة الحضارية أيضا.
إن الفرد مركب من عناصر فردية، لكل منها تركيب وصفات وخصائص فيزيائية وكيميائية مستقلة، والمجتمع أيضا ذو تركيب خصوصيات وأحوال وقوانين وقواعد لا تصدق على أي فرد من الأفراد في المجتمع، فالمجتمع "كيان" يشكل الإنسان بحياته وماضيه وحركته خلاياه، والبنية التحتية لأي مجتمع هي محصلة تشكيل عناصره المادية وكيفية تركيبها والعوامل الروحية والمعنوية التي صنعت "شخصية المجتمع".
والعوامل التي صنعت شخصية الجماعة هي الطبيعة والعرق والاقتصاد والشكل الطبقي والجماعي والنظام السياسي والدين واللغة والفن وأصول الإنتاج والتاريخ فيها، فالذي يكون أسرة ويصنعها يكون هو تاريخها.
لكن ما هو موقعك من التاريخ؟ إن العالم الثالث مجرد ذكرى تاريخية، فلا يوجد الآن أكثر من عالمين، فالعالم هو عالم الراكبين والمشاة، أو الراكبين والمركوبين، الأغنياء والأقوياء وأكلة السحت والرأسماليون وبائعو البضائع ومحددو الأسعار والمصائر، أي العالم الصناعي، ثم عالم الركود والتقليد والاستهلاك والتبعية في الشكل والادعاء والنشيد والعلم.
قامت الثورة الصناعية في العالم الأول لتحقق مزيدا من الإنتاج والإنصاف للعامل، ولكنها أدخلت بعد قرنين إلى العالم الثاني لتحقق التبعية والبطالة، وهناك المتعلمون أناس ذوو وعي اجتماعي ورؤية نقدية وفكر وأيدلوجية وسلوك مضاد للبورجوازية، وهنا المتعلمون أشخاص يذهبون للجامعة ويأخذون شهادات الفراغ، وهناك تشكل القراءة عادة شاملة لكل إنسان، وهنا لا تمثل جزءا من وقت الإنسان واهتمامه، والزراعة هناك تشكل فرعا للإنتاج الصناعي، ولكنها هنا مساحات وهوامش للفقر، وتشكل القرى هناك أقمارا تدور في فلك المدن، ولكن المدن هنا طفيلية على القرى، والديمقراطية هناك مفهوم وقانون راسخ للحكم والحياة، وهنا مفهوم غامض لا مكان له في عالم الحكم.
ولكن الإنسان هو الذي يستطيع –بقدر نضجه وتصميمه- أن يفرض إرادته على إرادة التاريخ، والتاريخ والمجتمع البشري لا يعملان على أساس المصادفة والعبث، بل على أساس من المبادئ يسميها القرآن "السن" التي لا تتبدل ولا تتحول، وعلى كل إنسان، سواء كان متدينا أو علمانيا أو اشتراكيا أو ليبراليا أن ينظر إلى الإنسان كإرادة وكعامل يستطيع أن يغير قدره التاريخي باستعداده الإلهي.
إن الضمير التاريخي من خصائص المجتمع المتحضر، والاتصال التاريخي هو الذي يحقق رباط الجيل الحالي بماضيه الذي تشكلت فيه شخصيته، فأول ما فعله الاستعمار هو أنه فصل الجيل الحالي عن تاريخه، لدرجة أن العصريين في هذا المجتمع لم تعد لهم صلة بماضيهم، ومن ناحية أخرى فإن غالبية الشعوب التي كانت قد فصلت عن تاريخها قد تدهورت إلى مستوى أمم بدائية جاهلة فاقدة للحضارة والثقافة.
يقترح شريعتي ثلاث قواعد معاصرة للنهضة، الأولى: كل من كان من أهل العلم والأدب والفن والقلم هو مجبر على أن يلجأ إلى مظلة ما ويستند على قاعدة ما والثانية: الدين وفق منظومة من العمل يشكل السوق قاعدتها والريف أطرافها، وفي داخلها المدرسة والمسجد والمنبر، والثقافة الموروثة والرؤية التقليدية، والثالثة: الانتجلنزيا، جماعات المفكرين مخروط رأسه غير واضحة وتحته الجامعة، وحواشيه دواوين الوزارات وبداخله المجلات والمسرح والتلفاز.
فالشاب ينبغي أن يحدد قاعدته الاجتماعية، ورسالته في الحياة والمجتمع، فيجعل من وقته وحياته وعمله قاعدة للعمل والإصلاح والمشاركة.
والخلاصة فإنه ليس أمام المفكرين والجامعيين والمهنيين والكتاب والفنانين والمعلمين والدعاة في المساجد والمجتمعات إلا خياران: الناس والمجتمعات وهمومها واحتياجاتها ومصالحها، أو النخب والمجموعات الداخلية والخارجية التي تجد مصالحها ونفوذها في تسويق التبعية والاستيراد الكامل للمنتجات والسلع والثقافات والمواقف والأفكار، أو لنقل: العودة إلى الذات أو مواصلة السير في المغامرة والمجهول.
العودة إلى الذات
تأليف: علي شريعتي
ترجمة: إبراهيم الدسوقي
دار الأمير للنشر، بيروت
الطبعة الأولى، 2006
520 صفحة
الآراء الواردة في هذه الصفحة تعبر عن آراء أصحابها فقط؛ ولا تعبر بالضرورة عن رأي دار الأمير للثقافة والعلوم. |