هذا الكتاب
هذا البحث الذي بين يديك عزيزي القارئ تحت عنوان " قيم النهوض الحضاري : الحريّة- العدالة- الاستقلال الوطنيّ " .
لكل بحث علمي أو مقالة فكرية أجواؤها وبيئتها التي صدرت عنها كما لها غاياتها، وبتعبير الفلاسفة لكل بحث علمي علله المادية والصورية والغائية والفاعلية. والبحث عن النهوض وقيمه لا يحيد عن هذه المسلمة المقبولة إلى حد كبير. وهذا ما سوف نحاوله في هذه المقدمة. التي سوف نعالج فيها مجموعة من المبادئ والأفكار التي تضفي على البحث ومبادئه وغاياته وضوحا ربما كان محتاجا إليه.
مفهوم النهوض:
النهوض مصدر من الفعل نهض وهو في الأصل القيام بعد القعود أو النوم، وفي الاصطلاح
يطلق هذا المصطلح على التحول الاجتماعي في مجال من المجالات المعرفية أو الاقتصادية
أو الثقافية أو غيرها, فيقال نهضة ثقافية ونهضة اقتصادية وما شابه. ويطلق في اصطلاح
أكثر تحديدا وتضييقا على عصر من العصور وحقبة من حقب التاريخ الإنساني هو عصر
النهضة الأروبية مع ما يحتف بهذه النهضة من مفاهيم ابتكرت أو تم تعويمها.
ونحن عندما نستخدم مصطلح النهضة والنهوض لا نقصد بالضرورة الالتزام بهذا المصطلح في
بيئته التي نبت فيها، بل نرمي إلى استخدام هذا المصطلح في بيئته الداخلية ومعناه
القريب من المعنى اللغوي للنهضة، ونقصد به كل تطور اجتماعي يصيب مجتمعنا الإسلامي.
ومن هنا يفضل بعض الكتاب استخدام مصطلح النهضة الحسينية بدل الثورة الحسينية. وعلى
أي حال إذا سلمنا أن النهضة هي تطور يطرأ على الاجتماع الإنساني، فإن ما يترتب على
هذه المسلمة التي تقرب من البديهيات هو التساؤل عن دور الإنسان في النهضة؟ وعن
القيم التي ينبغي أن تكون إطارا عاما للنهضة؟
دور الإنسان في التغيير:
يدور جدل واسع بين المنظرين للتغيير حول دور الإنسان في التغيير الاجتماعي؛ حيث
هناك من يرى أن الإنسان هو الحلقة الأضعف في سلسلة علل التغير الاجتماعي وما التغير
إلى صيرورة حتمية خاضعة لقوانين التاريخ وعوامل الاقتصاد وهذا ما يعبر عنه بالمادية
التاريخية في بعض صورها وتطبيقاتها؛ حيث يعتقد الكثير من المفكرين الذين يدورون في
الفلك الماركسي أن المحرك الاجتماعي الأساس هو الصراع الطبقي، وهذا الصراع يؤدي إلى
أو يرتبط بتبدل وسائل الإنتاج. وما سوى ذلك فهو توابع ولوازم لهذا التغير.
وفي مقابل هذه الرؤية هناك من يرى أن التحول الاجتماعي لازم من لوازم الاختيار
الإنساني وفق القاعدة القرآنية التي تقرر سنة من سنن الله في حركة التاريخ وهي قوله
تعالى في أكثر من موضع من كتابه الكريم ومنها هذه الموارد:
أ-
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾
(سورة الرعد: الآية 11.)
ب- ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى
قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
(سورة الأنفال: الآية 53)
ت- ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ (سورة الإسراء:
الآية 16.)
ويفضي
التأمل في هذه الآية إلى أن لله سننا تحكم حركة التاريخ وتطور المجمتعات أو فنائها
ولكن هذه السنة تتألف من ركنين أو فقل من شرط ومشروط والشرط في الآيات الثلاث هو
أمر إرادي يتعلق باختيار الإنسان وإرادته؛ الأمر الذي يطلق عليه السيد الشهيد الصدر
المحتوى الداخلي للإنسان، ويقرر أن كل تغيير اجتماعي هو تغيير في البناء الخارجي
مرهون بتغير البناء التحتيى أو المحتوى الداخلي للإنسان.
وعندما تكون النهضة تغيرا اجتماعيا، فهي خاضعة لسنة الله في حركة التاريخ المشروطة
بالإرادة والاختيار الإنساني. ومن هنا كان لا بد من البحث عن الأجواء المحيطة بهذا
الاختيار وقيمه الحاكمة له.
قيم النهوض:
للنهوض شروط وعناصر تشكل بيئة متكاملة تضمن لهذه النهضة الوصول إلى غاياتها
المتوخاة منها. ومن أهم هذه القيم ما يحاول مطهري معالجته في هذه المقالات التي
نقدمها إلى القارئ:
أ- الحرية
ب- العدالة الاجتماعية
ت- الاستقلال
الحرية:
وهذه القيم الثلاث مترابطة إلى حد يصعب على المرء ترتيبها ودعوى أن أحدها مقدم على
الآخر فإن الحرية قد تبدو لأول وهلة على رأس قائمة القيم المطلوبة لتحقيق النهضة
ولذلك كانت محور اهتمام الأديان السماوية جميعا، وبخاصة الإسلام حيث حدد هدف الدعوة
الإسلامية بـ"إخراج الناس من عبادة العبادة العباد إلى عبادة رب العباد" وعندما
يخرج المرء من عباد العبد المحدود ليكون عبدا للمطلق الذي لا يحده حد يكون قد وصل
إلى أقصى درجات التحرر والانعتاق وتتأصل حريته كلما زاد غوصا في لجة العبودية
للمطلق. وقد بني الدين بنظر مطهري على الحرية وفق قاعدة: "لا إكراه في الدين". ومن
هنا يفتخر مطهري بأن الحرية التي هي مصدر اعتزاز للثورة الفرنسية وأحد شعاراتها
أقرت في الإسلام بشكل أولى وأوفق بقيمة الإنسان حيث امتازت بأمور منها:
- إنها حرية مسؤولة: وذلك أن الحرية ليست قيمة مطلقة وإنما هي إطار فالحرية لا يمكن
أن تكون مطلقة من كل قيد في أي مذهب من المذاهب أو تيار فكري من التيارات، وإذا كان
لا بد من تقييدها فلتقيد بما يناسب موقع الإنسان في هذا الكون. والقيد هو أن يكون
الإنسان حرا في التفكير للوصول إلى الحق وفق قواعد الفكر والمنطق السليم.
- الحرية تكليف ومسؤولية: ليست الحرية عند مطهري منحة تقدم للإنسان وتهدى له إن شاء
قبلها وتمتع بها وإن شاء رفضها. بل الحرية مسؤولية وتكليف ينبع من داخل الإنسان
ليدعوه إلى كسر ما يكبل يديه وفكره من قيود. وربما لأجل هذا التصور تمت المفاضلة
بين دعوتين للتحرر والتحرير، الأولى منهما تقول: "لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله
حرا"، والثانية تقول: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، وتم تفضيل
الأولى من هاتين الدعوتين لأنها تتوجه إلى متعلق الحرية فتدعوه إلى التحرر والجهاد
لنيل حريته التي هي منحة إلهية يجب عليه الحفاظ عليها أو استردادها إن صودرت
واستلبت.
العدالة الاجتماعية:
هذا التقديم للحرية يبدو منه أولوية الحرية وتقدمها على غيرها من القيم المطروحة
للبحث والنقاش، ولكن في المقابل هناك تساؤل يصعب الفرار من مقتضياته هو: أي معنى
وفائدة ترتجى من الحرية عندما تنعدم العدالة ولا تتساوى الفرص؟ وعندما تتحول الدولة
التي يجب أن تكون حارسا ومنظما للحراك الاجتماعي إلى دولة إثرة؟
عندها تكون الحرية شكلا وحرية قول يفقد أي فاعلية أو قدرة على التأثير والفعل،
وبالتالي يكون من حق الإنسان أن يقول ما يريد ويرفع الصوت عاليا ويحتج ويعترض ولكنه
لا يستطيع ترجمة هذه الأقوال إلى أفعال. وفي واقع الحال تكون هذه الحرية إطلاقا
لحرية اللسان في الحركة والتعبير عن الفكر، وكسرا لكل القيود الظاهرة التي يمكن أن
يدان صاحبها واستبدالها بقيود خفية أقبح وأشد لؤما وخبثا. وربما كانت الحرية
المعطاة إلى كثير من الشعوب هي حرية من هذا النوع في عصرنا هذا.
الاستقلال:
وثالثة الأثافي التي يقوم عليها كيان الاجتماع الإنساني السوي بحسب مطهري هي
الاستقلال الوطني بمعناه السياسي والاقتصادي والفكري، وهذا الأخير يحوز الدرجة
الأعلى من الأهمية في نظر مطهري المسكون بهمين هم الإصلاح والتجديد وهم الحفاظ على
الهوية والأصالة ومن هنا كان المواجه الأول لما يعرف في إيران بالالتقاط فيرى مطهري
أن الثقافة لا يمكن أن تستورد من الخارج الثقافة والفكر ينبعان من الداخل ويتم
تطويرهما وإصلاحهما. وقد يحق لأحد أن يتأثر بالغرب أو بالشرق ويختار فكره فكرا له
ويتقمص ثقافته ثقافة له. ولكن الخطر الذي لا يرضى مطهري بالرضوخ له والاستسلام له
هو أن نستورد فكرة من الخارج ثم نعمل على تهجينها وتدجينها ودعوى أنها فكرة داخلية.
ربما يكون من حق أي كان أن يعتنق الماركسية مثلا ولكن ليس من حق أن يفسر الإسلام
تفسير ماركسيا وعلى الماركسية يقاس غيرها من التيارات والمذاهب.
وفي الختام نشير إلى أن محاولتنا هذه لنشر هذه المقالات التي منشورة في الأصل في
كتابين: أحدهما: كتاب حول الثورة الإسلامية، والثاني: كتاب حول الجمهورية، لا تمثل
استعادة لمطهري بقدر ما هي مواكبة له لأن الشهيد مرتضى مطهري كان وما زال مصدرا ثرا
للتنظير الفكري الذي يجمع الرغبة بالإصلاح والنهوض إلى التمسك بالأصالة وبأن يكون
هذا الإصلاح مستمدا من الجذور لا مستوردا لا من الغرب ولا من الشرق.