هذا الكتاب
شهد لبنان عبر مراحل تاريخية مختلفة تغيرات على صعيد البنية السياسية. لكن هذه التغيرات لم تكن تطال جوهر البناء السياسي للدولة القائم على الأساس الطائفي في إنتاج السلطة فحافظت الدولة على وجودها كإطار يحتضن الطوائف ويحافظ على كياناتها الخاصة، دون أن تتحول إلى إطار كلي يشد الأفراد على أساس الولاء الوطني العام.كذلك فإن الروابط الأهلية، بدت أشد فاعلية وأكثر بروزاً، واستمرت في التعبير عن نفسها كوحدات سياسية تنتظم في إطار العائلة والعشيرة والطائفة، وتنزع نحو حيازة السلطة، فيما بدت الروابط التي تقوم على أساس استمرار هذه الأشكال التقليدية في المحافظة على كياناتها الخاصة، فهل أن بنية النظام السياسي هي التي تسمح فعلاً بوجود هذه الأشكال من الروابط؟ أم أن وجودها يعود إلى أبعد من ذلك بكثير؟ وكيف يتبدى لنا ذلك من خلال رصدنا ودراستنا لها في منطقة بعلبك-الهرمل؟
إن معالجة هذه الإشكالية المطروحة تستدعي الإجابة عن الأسئلة التالية: كيف تم بروز كل من دوائر القرابة والحزب والطائفة، وما هي العوامل التي أثرت في ذلك؟، وما هي القوانين التي تسمح لدوائر القرابة بالحفاظ على لحمتها وتماسكها الداخليين على حساب الحزب والطائفة؟، ما هو الإطار أو المحور الذي تتم من خلاله عملية الصراع والتنافس بين القرابة والحزب والطائفة؟، ما هي العوامل التي تدخل في كل مرحلة تاريخية لفرض غلبة القرابة على حساب الحركات الحزبية والطائفية حتى قبيل الحرب الأهلية؟، لماذا تم التحول بعد الحرب من حالة الولاء للقرابة واستبدالها بالولاء للطائفة على حساب القرابة والحزب؟، ما هو الموقف المتعلق بكل من الحزب والطائفة في ترسيخ أو ضمور امتدادهما داخل الوحدات القرابية؟ وهل أن خطاب الحزب بقي قاصراً عن ذلك، في حين نجح خطاب الطائفة في هذا المجال؟
عن هذه التساؤلات يجيب الكتاب الذي بين يدينا وذلك من خلال ثلاثة أبواب: توخى أولها التعرف على طبيعة تشكل دوائر القرابة والحزب والطائفة تبعاً لسياقات تدريجية، فساهم ذلك في الوصول إلى اللوحة التي استقرت عليها هذه الدوائر فضلاً عن إظهار حالة التنوع والفروقات التي تحتويها كل منها. رغم ذلك، فلم يخل هذا الباب من المقارنة التي برزت بشكل خاص حين التعرض إلى سياقات الصعود والهبوط لدى الحركات الحزبية، خلال سعيها لتكريس وجودها عبر حركة الاستقطاب باتجاه دائرة القرابة.
أما الباب الثاني، فقد خصص لرصد حركة هذه الدوائر في محيطها. وقد سمح ذلك للتحليل والمقارنة، أن يسلكا دربهما من خلال رصد أشكال علاقاتها على قاعدة النتائج السياسية التي ترتبت في كل مرحلة من المراحل التاريخية، سواء تلك المتعلقة بالمنعطفات التاريخية التي يتمظهر خلالها العمل السياسي بمحاولة فرض أشكال دولتيه معينة، أو عبر حالة المنافسة، المكرسة أصلاً من خلال مقاعد البرلمان وعلاقات النفوذ.
أما الباب الثالث، فقد خصص لدراسة الخطاب السياسي للحركات الحزبية وللطائفة ولوسائل تطبيق هذا الخطاب، من أجل أن يسهم ذلك في المزيد من الإضاءة على الدينامية الخاصة لكل منهما وتبيان الكيفية التي تجري فيها حالات تعضيد اللحمة واستثمارها في التنافس على مواقع السلطة والنفوذ.