هذا الكتاب
يسعى هذا البحث " الخواجة نصير الدين الطوسي - مقاربة في شخصيته وفكره " لدراسة شخصية علمية كان لها تأثير بارز في مسار الفلسفة والكلام في تاريخ الحضارة الإسلامية هو الخواجة نصير الدين الطوسي، وهذا الاختيار له أسباب يمكن إيجازها كالآتي: عاصر الخواجة الطوسي زمناً مفصلياً، حيث إنه نشأ في أجواء الغزو المغولي الأول (جنكيز خان) الذي دمر الأطراف الشرقية للدولة الإسلامية، بما كانت تحويه من مدارس وحركة ثقافية غنية، وواكب الغزو المغولي الثاني (هولاكو) الذي دمر قلب الدولة الإسلامية وقتل رمز الخلافة العباسية، مع ما عناه ذلك من انهيارات في البنى الاجتماعية والسياسية والمعنوية بما كان يمثله الخليفة العباسي من وحدة معنوية جامعة على مستوى العالم الإسلامي، وقضى هذا الغزو وبشكل تام، على آخر دولة يعتبر المذهب الإسماعيلي، مذهباً رئيسياً لها.
كان
القرن السابع ساحة لحراك ثقافي واسع، فقد بدأت إرهاصات تحولات مذهبية هامة في
الأفق، فقد انتهى العهد السلجوقي الذي فرض المذهب الأشعري وناصره من خلال المدارس
النظامية، وبدا يظهر الاتجاه الجنبلي-السلفي من خلال ابن تيمية وتلامذته. ونكب
المذهب الإسماعيلي بقتل أحد أئمته وتلف جزء كبير من الوثائق الفكرية لهذا المذهب
عندما انهارت دولة القلاع وحرقت المكتبات التي كانت موجودة آنذاك.
أما على المستوى الفلسفي فقد كانت حقبة أتت عقب ضربات موجعة وجهت إلى الفلسفة عامة
وفلسفة ابن سينا بشكل خاص، من خلال النقود التي جاءت على يد الغزالي والشهرستاني
والفخر الرازي بما كانوا يمثلونه من مرجعيات فكرية لها وزنها على مستوى العالم
الإسلامي في تلك الفترة، وشهد هذا العصر نضوج المدرسة العرفانية على يد ابن عربي
وربيبه صدر الدين القونوي.
تفتحت قريحة الخواجة نصير الدين الطوسي في ظل هذه الأجواء المتلاطمة، وتمثلت فيه كل
ظواهر عصره الثقافية والسياسية والأخلاقية، فقام باستيعابها ورفدها في سبيل إعادة
إحياء الجانب العلمي والفلسفي والكلامي برمته، ولكونه لا يشبه بشكل من الأشكال ذلك
النمط من المفكرين الذين عاشوا بعزلة: حيث كان من لذا تقلبوا وعاشوا في بؤرة الحياة
السياسية والاجتماعية في ذلك العصر المتقلب، كان على الباحث الذي يريد الولوج إلى
ساحة الخواجة الطوسي أن يعالج الكثير من الإشكاليات التي أثيرت حوله، والتي لا يمكن
معالجتها معالجة وافية دون الإلمام بالظروف الاجتماعية والسياسية التي عاصرها، ولا
يمكن الوصول إلى قدر معقول من التفسير والتبرير دون وضع هذه الإشكاليات في سياقها
التاريخي والاجتماعي. وما يؤكد ضرورة استيعاب هذا السياق هو أن نشاطه العملي وتأثره
بالحياة الثقافية والسياسية السائدة في عصره لم يكن أقل شأناً من نتاجه الفكري.
وفي سياق اكتشاف ودراسة أبعاد تجربة الخواجة الطوسي الفكرية تم في هذه الدراسة
اعتماد المنهجية الوصفية دون إغفال الظروف التاريخية المواكبة للظاهرة.
حيث بدأ البحث في الباب الأول بمدخل تاريخي لعصر
الخواجة الطوسي، وقدم للبحث بإطلالة جغرافية توضح مكان الأحداث وطبيعتها حيث تم
استعراض أبرز الأحداث والعناصر المؤثرة في الحدث السياسي والاجتماعي في القرن
السابع للهجرة.
بعدها
تم التعرض في الباب الثاني للبحث في السيرة الشخصية
للخواجة الطوسي، مع التركيز على النشاط العلمي تلمذة ودراسة والأساتذة الذين كان
لهم التأثير الأبرز في صياغة شخصيته العلمية، ثم تمت دراسة سيرته الشخصية وفق الحقب
الزمنية وعالجنا الإشكاليات التي أثيرت حوله.
واستعرض الباب الثالث الآثار العلمية للخواجة الطوسي
في محاولة لاستيعاب جميع المجالات التي بحث وكتب فيها، ثم درس هذه الآثار العلمية
من خلال قراءة تقويمية لها من طبيعتها وأثرها على التجديد والإحياء العلمي في القرن
السابع من مختلف الجهات،
ثم
بحث الباب الرابع المشروع العلمي الأهم في القرن
السابع، وهو "مرصد مراغة" حيث قام بتحديد خصائصه كمركز علمي مع المقارنة بينه وبين
المراكز والمراصد التي أنشئت قبله وبعده.
وفي الباب الخامس تمت مقارنة مشروع الخواجة الطوسي
الفكري حيث تم اعتبار أنه قد قام بمشاريع ثلاثة، المشروع
الأول الرد على النقود التي وجهت للفلسفة ومن ثم إحياء الدرس الفلسفي عامة
وفلسفة ابن سينا بشكل خاص، وقد درس هذا المشروع من خلال استعراض ما كتبه في مجال
الرد على مشروع نقد الفلسفة الذي أسسه الغزالي وتابعه عليه الشهرستاني والفخر
الرازي. والمشروع الثاني كان التجديد في علم الكلام،
وقد درس من خلال دراسة مسار علم الكلام حتى عصر الخواجة الطوسي، ثم تم تحديد أثره
على تطور علم الكلام لدى الشيعة الإمامية بالمقارنة بين أثره الأهم في علم الكلام
تجريد الاعتقاد، وبين "أوائل المقالات" وهو الأثر الأهم للشيخ المفيد كونه أول من
صاغ مجموعة عقائد الشيعة ضمن نظام فطري محدد حاول الجمع فيه بين العقل والنقل، وكان
اختيار هذا الكتاب بوصفه الكتاب الأهم في عصره والمقبول بدرجة كبيرة من قبل علماء
الشيعة الإمامية ومدار البحث في الحوزات العلمية حتى عصرنا الحاضر.
بعدها تم البحث في العرفان عند الخواجة الطوسي حيث تم
المقارنة بين الأثر الأبرز لإبن سينا في العرفان العملي وهو "الأنماط" الثلاث
الأخيرة من الإشارات والتنبيهات مع الأثر الأهم للخواجة الطوسي وهو "أوصاف الأشرف.
وكانت هذه المقارنة لتحديد جوانب تطابق واختلاف هذه الآثار مع الحكمة العملية كأحد
أبواب الفلسفة من جهة، وعلى مستوى معالم العرفان العملي عند الخواجة الطوسي وما
يمتاز به عن ابن سينا من مختلف الجوانب من جهة ثانية. وفي النهاية كانت الخاتمة
التي عالجت موقع الخواجة الطوسي في مسار الفكر الإسلامي.