هذا الكتاب

هل نحن بحاجة إلى مقاربات جديدة لفهم الدين.. وهل يمكن الحديث عن فلسفة للدين الإسلامي كبديل عن علم الكلام بعد أن وصل هذا العلم مع تغير الظروف وتحول السياقات إلى الإنسداد المعرفي، خاصة بعد تطور العلوم والمناهج والمفاهيم؟ ثم ألا تستبطن مثل هذه الدعوة تكراراً للتجربة الأوروبية التي أخضعت الدين للسؤال الفلسفي والنص للواقع كمحاولة للخروج من الحصار الذي فرضه تطور العلوم؟ لقد جاء كتاب الشيخ شفيق جرادي ـ”مقاربات منهجية في فلسفة الدين”ـ ليحمل طموحاً منهجياً لمقاربة الفهم الديني، منطلقاً في ذلك من قناعة مفادها أن المعرفة والصياغات المفاهيمية الحديثة قد تجاوزت سير علم الكلام وصياغته القديمة.

يحتوي الكتاب " مقاربات منهجية في فلسفة الدين "على ثمانية فصول وزعت على موضوعات مختلفة كان الهاجس المنهجي قاسماً مشتركاً بينها، كما تضمن الكتاب أيضاً مدخلاً حاول الكاتب فيه القيام بخطوات تمهيدية من خلال مناقشة ثنائيات موجهة -Dericteurs - في معالجة إشكالية العلاقة بين النص الديني والمنهج لدى الكاتب، كان أولها ثنائية العقل والفلسفة، حيث تساءل الكاتب عن العلاقة بين النتاج العقلي والناتج الفلسفي وعن حدود كل منهما. فالعقل هو الذي تقبع فيه الفلسفة دون العكس إذا قلنا بأن الفلسفة هي مبحث عقلي بالضرورة. لكن انفتاح العالم على أسئلة لا نهائية جعل من المبحث العقلي أو الفلسفي نشاطاً يقوم على ممارسة السؤال والسؤال المضاد. وإن تسترت وراءهما قناعات شخصية ألبست الفلسفة لباس الحالة الإنسانية مما يستدعي القيام بخطوتين أساسيتين حسب الكاتب. أولاهما السعي لبحث حدود المبحث الفلسفي، والثانية القيام بإحصاء وعدّ للأسئلة والإشكالات التي يمكن أن تشكل موضوعاً للفلسفة.

ومن تحديد العلاقة بين العقل والفلسفة، انطلق الكاتب لمناقشة العلاقة بين المنهج والفلسفة من مستويات ثلاثة، أولها: المتعلقة بالآليات. إذ إن المنهج في هذا المنظور هو أسلوب فني يراعي متطلبات الظروف الزمنية والمكانية ولكنه لا يخرج في الأخير من رؤية وفلسفة الباحث.

المستوى الثاني: يتعلق بالمنهج كمنطق للتفكير، باعتباره القواعد والضوابط التي تحكم سيره. ومن هنا عدّ كل من المنطق الأرسطي أو المنطق التجريبي منهجاً. وبالتالي فطالما أن العلوم تتمايز بموضوعاتها فهي تختلف كذلك بمناهجها. فلا مكان لمنهاج عام ومطلق للعلوم.

هناك معنى آخر يحتمله مفهوم المنهج، وهو المستوى الثالث المتعلق بالضابط المنهجي لتوليد الأفكار والذي يتحول إلى نظريات ونسق مرجعي. والمنهج في هذا المستوى يحتل مرتبة أعلى وأعم من المستويين السابقين وهي المرتبة التي يندرج فيها النقاش عن العلاقة بين المنهج والنص الديني و “إمكانية قيام منهج فلسفي لقراءة النص الديني”. إلا أن مفهوم النص نفسه شهد تطوراً يختلف عن الذي عرفه القدماء والمدارس البلاغية والنقدية. إذ قبل مجيء الثورة البنيوية كان النص في البدء وكان الكل نصاً إلى أن صار لا نهائياً ومفتوحاً لبناء علاقة بين النص الديني والقراءة البنيوية وهو ما يقتضي كخطوة تمهيدية التفريق بين النص الديني الذي مصدره الوحي وبين التراث الديني والذي مصدره الإنسان أي العقل. وبعبارة أخرى بين المستوى النصوصي والمستوى التفسيري وهو موضوع النقاش.

1- نحو فلسفة للدين الإسلامي

وتحت عنوان “الإسلام وفلسفة الدين.. وجهة نظر”، تناول الكاتب موضوع الدين وتعريفاته وتحديد معانيه بشكل عام. وذلك للخروج من مآزق الاستكفاء الذاتي للأديان والمشاعر المزهوة باكتمال ونهاية تاريخ الدين، سواء كان الدين يهودياً، أو نصرانياً أو إسلامياً. لذا فإن “مقتضى التحدي” “يصاغ بالدليل البشري، المولج إلى النص الإلهي” عوضاً عن الركون إلى النصوص فقط لكشف مدى صدقية وأفضلية الإسلام وهو ما يمثل تحدياً للعقل الإسلامي أمام موجات التشكيك وتفريغ الإسلام من مضمونه الكمالي. إذن كيف يعرّف الإسلام الدين؟ وما هو معيار الدين الأقوم حسب المنظور الإسلامي؟

يجد الكاتب في العلامة الطباطبائي مفصلاً حساساً في منظومة فلسفة الدين من خلال التعريف الذي ارتضاه العلامة للدين من داخل الحيز الإسلامي، إذ وخلافاً لتعريفات علماء الاجتماع واللاهوتيين الأوروبيين، يعرف الطباطبائي الدين “بأنه سلوك الحياة الدنيا، يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله تعالى” إلا أن ما يميز تعريف الطباطبائي عن غيره ويمنحه بعداً بشرياً يصلح لكل زمان ومكان مع انطلاقه من النصوص القرآنية والأحاديث هو اعتبار معيار الفطرة دليلاً على قوامية الدين. إذ كلما كان الدين أقرب للفطرة الإنسانية كان أقوم وأصلح، حيث يقول: “الدين صبغة اجتماعية حمله الله على الناس ولا يرضى لعباده الكفر” والصبغة كما يقول الأصفهاني: “إشارة إلى ما أوجده الله تعالى في الناس من العقل المتميز به عن البهائم” “فالعلامة يعتبر أن الصبغة من الناس، أما صبغة الله فهو عنصر الفطرة”.

“فالتعريفات التي قدمها العلامة الطباطبائي بحس فلسفي، تظهر النقاط التالية:

1- كل التعاريف كانت مستندة إلى الروايات والآيات القرآنية والعقلية والتي تكلم بها نابعة من تلك المرجعية الفكرية، وبالتالي فإن طبيعة التعاريف كانت تتحدث عن الدين بما يتناسب مع المنظومة الإسلامية، وليس عن الدين بمطلقيته.

2- تأثر العلامة بالتعريفات الأرسطية للدين في موضوع السعادة، وتأثره بالعرفاء عند حديثه عن الكمال.

3- راعى العلامة جنبة الآخرة عبر ربط الدنيا بها وكونهما حبلاً واحداً، فالدين ليس أمراً دنيوياً فحسب أو أخروياً فقط، إنما هو مسألة تنظر بالأصل إلى الآخرة ومن ثم إلى موضوع الدنيا عبر ارتباطها بها.

4- في اللغة التي استخدمها نلاحظ طبيعة كلامية وأصولية في كثير من الأحيان. ومن خلال مجموعة هذه النقاط نتوصل إلى القول: إن العلامة عرّف الدين بما هو إسلام، وهذا يعني أن غاية ما قدمه يصلح ليكون محدداً من محددات فلسفة الدين، وليس فلسفة الدين الإسلامي”.

بعد تعريف موضوع البحث أي الدين تُرى ما هي المنهجية التي ينبغي اعتمادها في قراءة الظاهرة الدينية؟ وكيف يجب التعاطي مع النص الديني؟.

وبما أن تعدد المباحث يستوجب بالضرورة تعدد المناهج المناسبة، يُطرح إشكال أساسي عن كيفية استخراج المنهج من النص أي من جغرافية المبحث حتى لا تسقط في آفة تطويع النص لديكتاتورية المناهج المسبقة أو ما يسميه العلامة الطباطبائي بالقراءة التحميلية والتي لا تفسح مجالاً للنص ليتحدث عن نفسه، وهذا ما دعا العلامة إلى طرح منهجية للتفسير الموضوعي، أو تفسير الآية ببقية الآيات. وهو ما عمل السيد الشهيد الصدر على تطويره. إذ اعتبر أننا إذا أردنا أن يحكي النص الديني عما يختلج فيه، فعلينا أن نرصد شبكة التمدد والعلاقات القائمة للمفهوم، أو المصطلح المحددين في مساحة النص، كما علينا البحث عن كل ما يتوافق أو يتخالف مع المفهوم والمصطلح..”.

يقترح الكاتب (التوحيد) كمبدأ ناظم وتوجيهي في منهج البحث والقراءة بمقتضى الحقل والنص الديني الإسلامي الذي نشتغل فيه، بالإضافة إلى أن المباحث المتعلقة بنشأة وبداية الدين قد أجمعت تقريباً على أن الدين كان في البداية عبارة عن فكرة الله والإله الواحد قبل أن تنأى بها رياح التاريخ من التوحيد إلى الشرك. لذا وبناءً على هذه النظريات يمكن اعتبار هذا المبدأ إضافة إلى انسجامه مع روح النص الإسلامي (وصبغة الله) فإنه يتفاعل مع أغلب مدارس الدين مادام يتعايش مع روح النقد لارتكازه على العقل كمصدر مؤسس للمعرفة الدينية بالمعنى الثاني الذي سبق أن أوضحه الكاتب، خاصة وأن هذه الآليات مارسها المسلمون في حقول شتى خاصة علم الأصول والذي تم التعاطي معه (كمنطق فقهي) بتعبير الشهيد الصدر.

وبما أن الحديث عن الدين لا يستقيم ولا تكتمل دراسة جوانبه دون تناول موضوع الإيمان، إذ لا دين دون إيمان واعتقاد، بل يمكن القول: إن الدين هو نتاج لعملية معقدة، بسيطة وخفية، هي الإيمان الذي يقر في القلب / العقل.

قدم الشيخ شفيق جرادي الفصل الثاني المعنون بـ”الإيمان بين الشك واليقين” بجرد للمعاني اللغوية لمصطلحي الإيمان والاعتقاد وذيلها باستنتاجات وملاحظات، ربما كان أهمها من الناحية الإجرائية والمنهجية هو ضرورة التمييز بين فعل الاعتقاد والإيمان كحالة نفسية، بين العقيدة ومتعلقات الإيمان، اللتين هما واقع مستقل عن النفس لأن مصدرها خارجي ولا تملك النفس إزاءه القدرة على تغييره، أما ما يصدر عن النفس من حالات وتجارب نفسية - دينية يجعلها علماء النفس الديني في مصاف النزوع النفسي أي وليدة حركة للنفس الإنسانية، فإن هذه النزوعات وليدة العقائد الخارجية بالأساس والتي تتفاعل معها النفس بتفسيرات وتأويلات قصد الوصول إلى الحقيقة التي تعبر عنها ضروريات الدين. والذي يشكل جزء المفهوم الثالث المتعلق بنسبة التعلق بين النفس والموضوع، هذا الأخير الذي شكل مفصلاً دقيقاً بين متبني المنهجيات الغربية على شاكلة فيورباخ والطرح الذي ينادي به الكاتب المتضمن للقراءة التكاملية للمعارف العقائدية انطلاقاً من روح النص الإسلامي. فالاتجاه الأول مثله “العديد من المهتمين بفلسفة الدين كفيورباخ، وبعض المعاصرين كعبد الكريم سروش ومصطفى ملكيان... الذي يقول في حوار أجرته معه مجلة كيان -فرهنك- الذين أراه أن المعتقدات الدينية غير ممكنة الإثبات، وطبعاً لا يمكن إثبات نقيضها، أيضاً المعتقدات الدينية لا تقبل الإثبات العقلاني ولا الدحض العقلاني” دون أن يحدد أي منهم عن أي صنف من المعتقدات يتحدث... ثم ما هي الأدوات والوسائل والمناهج التي لا يمكن من خلالها إثبات أو نقض المعتقدات الدينية؟

اللهم إلا أن يكون المقصود من هذا الموقف الإشارة إلى أن الدين هو نزوع نفسي تتحكم فيه الأهواء والمصالح والاحتياجات والثقافات القائمة... ولا واقعية للدين وراء ذلك.. وهذا ما لا أظن أن بعضهم على الأقل يذهب إليه.. وإن كانت ملازمات ونتائج مثل هذه الأقوال توصل إلى هذا المذهب. لكن المشكلة الفعلية عند الكثير منهم إنما تقع في المنهجيات التي يعتمدونها”.

وكما أن الحديث عن الدين يقود بالضرورة إلى الحديث عن الإيمان، فكذلك قادنا هذا الأخير إلى اليقين طالما أن مجال بحثنا هو الدين بلحاظٍ ما لأهمية اليقين بمراتبه في الإيمان العقائدي. إلا أن مفاهيم النسبية واللايقين والنزعة التشكيكية والتي تسربت من مجال العلوم الفيزيائية إلى حقل المعارف الدينية وولدت آراءً متناقضة مع الإيمان الديني تحت شعار الموضوعية العلمية التي ترى في اليقين أمراً غير عقلاني بل ومثالي، وبالتالي تجعل مفهوم النسبية مقابل المطلق حتى باتت النسبية التشكيكية في قبال اليقين بعد أن كان مقابلاً للإطلاق والشمولية “ففيما يخص النسبة فهي ما لا يكتفي بنفسه، ما لا يكون مطلقاً... بهذا المعنى لا يفهم النسبي إلا بتعارض مع وجود لذاته وبذاته”.

هذا وقد نصح بلونديل: “من الخطأ التام أن تجري العادة على جعلها (أي النسبية) تعني ما لا يكون كاملاً ذاتياً، مطلقاً على صعيد المعرفة، فهذا يعني حكماً خلط النسبي مع غير المناسب...”.

أما الفصل الثالث فقد اختار له الكاتب أن يتمحور حول الثنائية الكلاسيكية ما بين الدين والعلمنة في نظام المعرفة والقيم، فقام الشيخ بجرد للأقسام العلمانية التي تتفرع إلى تصالحية مع الدين، وعلمانية نضالية، وأخرى شاملة ثم العلمانية الجزئية، ويقابل هذا التقسيم وجود أنواع من الأديان، هناك الأديان الوضعانية التي لا تعتمد في تعاليمها على الوحي الإلهي، والأديان الوحيانية، “فأي دين نقصد في هذه المعالجة؟”.

يرى الكاتب أن البحث يجب أن ينحصر في معالجة العلمانية الشاملة مقابل الدين الشامل الذي يمثله الإسلام لتوفره على منظور فكري وعقائدي وقيمي يتداخل فيه الفرد والجماعة كما للتاريخ، فشرع بتعريف العلمانية وتوصيفها كمشروع بديل عن الدين، ورؤية تعتمد على العقل لا على النص، وهو موقف يتجاوز التعريف الذي جرت به العادة عند الحديث عن العلمانية كفصل للدين عن الدولة، ودلل الشيخ على أن العلمانية ليست مناوئة لمؤسسة كالكنيسة مثلاً، بل إنها تعبر عن موقف من رؤية كليانية تتمحور حول مصدر هو (الله)، وذلك بجرده لست أسس، أنه “علينا أن نفرق بين الشيء (الدين) بنفسه، والشيء (الدين) كما يتبدى لنا، فلا يصح أن نتناول الدين وكأننا نقبض باسم العلمانية على تمام الحقيقة وكمالها... فالأحكام إنما تنبع من فهم الدين كما يتبدى لنا لا كما هو بنفسه..”.

ثم هناك محدِّد موجِّه في العلمانية التأويلية لدى تناولها لموقع الدين، وهو اعتبار هذا الأخير ظاهرة عدائية لها، مما جعل أحكامها عليه تأخذ صفة الأحكام الإيديولوجية أكثر من المعرفية العلمية والحيادية كما تدعي.

لا شك أن العقل يعد من أهم المباحث التي عُني بها تاريخ الفلسفة الإسلامية والأوروبية، بل ربما كان هو المبحث الأول الذي انطلقت منه وفيه الأسئلة الوجودية والتكوينية للكون منذ أن بدأ الإنسان بالتفلسف وبتوليد الأسئلة، وقد شكل تعريف العقل باختلاف مراحله محدداً منهجياً في مناقشة جدلياته ورصد تفاعله مع الواقع.

ويبدو أن الشيخ شفيق جرادي سلك المسلك نفسه من خلال الفصل الرابع من الكتاب المعنون بـ”العقل في جدلياته” والذي استهله بتحديد معنى العقل والاختلاف الحاد الذي وقع فيه العلماء حول مسألة تعريف العقل، فمنهم، من عده جوهراً مجرداً عن المادة في ذاته، مقارناً لها في فعله، وقيل: إنه جوهر روحاني (وهذه الروحانية تفيد الحركة المستمرة وللا نهاية)، ولعل أبرز من سعى إلى تحديد معاني العقل هو أبو حامد الغزالي الذي اعتبر أن العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معانٍ تتراوح ما بين الوصف الذي يميز الاثنين عن الحيوان والعلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز (وهذا شبيه بالمقولات القبلية والعقليه)، والعلوم التي تستفاد من التجارب، ثم تلك القوة التي تقمع الشهوة العاجلة. ثم توالت بعد ذلك التعريفيات الأنطولوجية التي اعتبرت العقل أول موجود ظهر كما جاء في رسائل إخوان الصفا: “اعلم أن علة وجود العقل هو وجود الباري عز وجل وفيضه الذي فاض منه، وعلة بقاء العقل هو إعداد الباري عز وجل له بالوجود والفيض الذي فاض أولاً، وعلة تمامية العقل هو إعداد الباري عز وجل له بالوجود والفيض الذي فاض أولاً وعلة تمامية العقل هي قبول ذلك الفيض والفضائل واستمداده من الباري تعالى...”.

وهذا التطور في تعريف العقل، سيضعنا أمام اتجاهين رئيسين حسب الكاتب.

الاتجاه الأول: وهو الذي تعاطى مع العقل كآلة أو منهج أو وظيفة للاشتغال اليومي وإدراك الحقائق والأشياء، ويمثل المستوى الفاصل بين الخاصة والعامة. وبالتالي فلا استطاعة له على بلوغ حقائق الإيمان ومراتب الإحسان لاقتصاره على وظائف حددتها له الثقافات التي أنتجت هذا التعريف للعقل، مثل الثقافة اليونانية.

أما الاتجاه الثاني فقد تعامل مع العقل باعتباره فعالية إنسانية منشؤها النفس الناطقة المتجردة أي ليس لها حد أو مقام تنتهي عنده، و “عليه يمكن تصوره كامتداد لحركة النفس في تعقلها يتجاوز الحدود المصطلح عليه عادة.. بل يصبح الأمر أكثر إلحاحاً إذا وجدنا في مجال النص الإسلامي ما يشير إلى العقل من خلال الصيغ الفعلية”.

وعمد أصحاب هذا الاتجاه لتدعيم نظرتكم إلى كشف الاضطراب الذي حصل في تجديد معنى العقل وتارة أخرى بالعودة إلى النصوص القرآنية والتي وردت فيها مادة عقل إما بصيغة فعل المضارع على سبيل الاستفهام {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أو التقرير {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أو النفي {لاَ يَعْقِلُونَ}، وممن ذهب هذا المذهب المفكر طه عبدالرحمن في كتابه (العمل الديني وتجديد للعقل) إلا أنه كان للشيخ جرادي رأي آخر حيث آخذ على أصحاب هذا الاتجاه أنهم لم يجروا نقاشاً في نقطتين:

الأولى: أن الفعل وصيغته إنما يدل على حدث في زمن وقع أو يقع في (الآن) غير القار، وهو بذلك يحدث عبرة أو يقظة أو ثقافة حتى إذا ما استقرت وثبتت في مصدرها كانت عقلاً أو فؤاداً أو لباً أو قلباً...

من هنا عاب سبحانه في صورة الحج على قوم، قائلاً: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ( الحج، 46).

الثانية: إن ذكر العقل كمصدر لفعل التعقل قد ورد كثيراً في الروايات والأحاديث على تنوع اهتماماتها العبادية أو الأخلاقية أو السلوكية أو المعرفية، أو العلمية خارج دائرة العلاقة بين القرآن والسنة بما هي -السنة- شارحة للآيات؟

إذن ينتقل الإشكال من حد التعريف إلى تتبع حركة العقل وحدوده ليسلم الراية إلى القلب مركز الإيمان والذي يشكل بداية رحلة المعرفة الذوقية بالأحوال دون توسطات ولا نسب مما يجعل العلم العرفاني أدعى للطمأنينة وأكثر وثوقاً. وهو ما يتوافق مع الآيات والروايات التي لم تختزل بتنوعاتها العقل في البرهان.

ووفاء لنفس التسلسل المنطقي، عرّج الكاتب على مفهوم الجدل في التراث الغربي باعتباره مظهراً من مظاهر حركية العقل ونزوعاته الجدلية، فقام باستخلاص أسس التجربة الجدلية في الغرب بدءاً من أفلاطون الذي رأى في الجدل وسيلة لتفسير نظرية المثل، وذلك بالانتقال من المحسوس إلى المعقول دون وساطة حسية ثم إلى نقد الجدل والعقل مع كانْتْ ثم هيغل ودراسته للحياة الباطنية للعقل وجدله التاريخي. أما الجدل في ميادين الحكمة الإسلامية فقد اكتسى طابع الإيديولوجيا عندما تمت ممارسته على أساس بناء وتنبيت هوية المذاهب والفرق، وهو ما دعا الفقهاء إلى وضع حدود ومحاذير شرعية للحؤول دون تفاقم سلبياته المخالفة لمقتضى العلمية والموضوعية، فالتزم الفلاسفة بمنهج البرهان عوضاً عن الجدل، واعتبار الجانب الأخلاقي في التعاطي مع المعرفة وهو ما انتبه إليه العقل الإسلامي عند تناوله (لأصول المعتقد الإسلامي ومبادئه) وإقراره بوجود ثنائية تصل إلى مستوى معين من الجدل تمثلت حسب حكيم الإشراق شهاب الدين السهروردي في العقل البحثي والمعرفة التألهية أو الإشراقية. وإن كانت حسب فيلسوفنا قابلة للتكامل والتعاضد، لإمكانية تعاضد البحث والتأله الذي يوصل صاحبه إلى كماله الإنساني لنيل مرتبة وشرف الخلافة، وأرجع شهاب الدين السهروردي الاختلاف الحاصل بين متقدمي الحكماء ومتأخريهم إلى اختلاف الألفاظ والعادات وربما كان يعني أيضاً اختلاف التجربة الذوقية والشهودية مما ينعكس على تصريحهم “فالكل قائلون بالعوالم الثلاثة متفقون على التوحيد لا نزاع بينهم في أصول المسائل” وبذلك فتح السهروردي الباب أمام مشاريع فلسفية بحثية وكشفية تمثلت في رائد الحكمة المتعالية الملا صدرا الذي يرى أن النوع الإنساني يتمتع بمميزات تؤهله لبلوغ الكمال وتجاوز تناقض المعرفة البحثية والتألهية، وذلك للاتصال بالمعقولات، أي للمعارف وهو ما يتفق مع روح الإسلام الشمولية.

ونتابع مع الكاتب سفره في حكمة الإشراق وجدلية الأنساق مع السهروردي الذي أعاد إحياء الإشراق وسبر أغوار مقاصد الحكماء مستخدماً ما توافر لديه من أدوات تأليفية للرموز “تجاوزت معايير الخطاب إلى الأصل المنشئ..” فاعتبر أن الردود على كلمات الأولين لم تتوجه إلى مقاصدهم كما هو شأن أرسطو وردوده على أفلاطون، إذ لا رد على الرمز. لما للوجد والعقل من توالف كفيل وهو ما يعبر عنه قراملكي بالحصر المنهجي أو الاختزال المعرفي لدى العقلانية الاعتزالية المتمثل في الواحدية المادية.

وتتفرع حكمة الإشراق لدى السهروردي إلى ثلاث لمحات تتعلق الأولى بجدلية (النور والظلام)، والثانية بمصدر الفكرة ذاتها أي نشوء حكمة الإشراق، أما الثالثة فتتعلق بالمنهج.

بالنسبة للمحة الأولى فقد تمايزت لدى السهروردي عن المعنى الذي أعطته الفلسفة الفارسية لثنائية النور والظلام، وقياساً على الفلسفة الصينية ومنظور ينغ ويانغ (YING&YONG) اللتين منحتا للظلمة وجوداً مستقلاً عن النور مما يستدعي القبول بفكرة وجود مصدرين هما النور والظلام أو الخير والشر، الأمر الذي سيوقعنا في صراع متقابلات مطلقة. في حين أن قاعدة النور لدى السهروردي تجعل كل ما يصدر عن الله مرتبطاً بوجوده ومفتقراً إليه، أما عن مصدر حكمة الإشراق فهناك من أرجعها إلى فارس القديمة وهو ما ذهب إليه كل من الشيرازي وهنري كوربان حيث كان العامل الجغرافي محدداً في مسألة المصدر وذلك بانتمائه إلى الشرق. وهناك من أرجعها إلى التراث اليوناني بشقيه الأفلوطيني والأفلاطوني كذا المدارس الفلسفية الإسلامية عند الفارابي وابن سينا وأبي البركات البغدادي.

وخلافاً لما ذهب إليه أغلب المفكرين، يرى الشيخ جرادي أن السهروردي قد أقر عندما استدعى حكمة الإشراق، بكل نبي جاء قبل الرسول (ص) مصداقاً لقوله تعالى: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ} (غافر 78). “وهذا يفتح المجال واسعاً أمام إمكانية اعتبار” جملة من الحكماء أنبياء بالأساس. “فما المانع أن يكون زرادشت نبياً؟ كما أفلاطون نبياً؟” ونرى أن هذا الكلام وجيه من عدة أوجه، أولاً لقد أثبت التاريخ وخاصة تاريخ الأديان عموماً أو تلك الوحيانية، أن مسألة التوحيد كانت هي الفكرة الأصل كما رأينا سابقاً. ورغم أن كل المجتمعات عبر التاريخ عرفت التدين بشكل أو بآخر فإنها بالمقابل لم تعرف التوحيد دون تدخل من الوحي والذي من وظائفه الأساسية إن لم تكن الوحيدة هو توجيه الإنسانية نحو بارئها الأوحد، ثانياً لوجود بعض ممن نقل لنا التاريخ بأنهم حكماء وفلاسفة قد كان مما تسرب من أقوالهم أو كتبهم قضية التوحيد ودفاعهم عن الفكرة كسقراط مثلاً أو بوذا حيث تكفي إطلالة سريعة على بعض الترانيم البوذية لتكتشف بجلاء الأدعية الموحدة.

ولا يضير في هذا المقام إن كان هؤلاء الحكماء قد قتلوا كما هو الشأن بالنسبة لسقراط: أو عبدوا بعد وفاتهم. فالمسيح (ع) قد اتخذوه إلهاً وشريكاً لله تعالى، لكن ذلك لم يكن ليخدش في نبوته وعبوديته لله. وإذا كان المصدر واحداً فلا إشكال في تأليف ما يظهر عليه الاختلاف وهو ما نجحت إشراقية السهروردي في بلوغه متجاوزة نحو المصدر.

2- معالم إحيائية إسلامية معاصرة

أما الفصل السادس فقد اقتصر على بسط وشرح ما تعنيه فلسفة الدين والإحيائية الإسلامية المعاصرة لدى الكاتب، بدءاً من اعتبار أن فلسفة الدين هي عبارة عن بحث حر في مناشئ ومقومات وطبيعة النظرة التي يحملها الدين الإسلامي بمثابة صبغة الله ونموذجاً لتكامل الرسالات. أما بالنسبة لمعنى الإحيائية فهو مفهوم مغاير لما ساد في دراسة الأديان القديمة التي رأت في الإحيائية مرحلة أولى من مراحل الدين كما عند إدوارد تايلور، وإنما المقصود من المصطلح هو ما عمد إليه علماء المسلمين من جهد لإحياء روح التدين في النفوس والأحكام والقيم في الاعتقاد.

أما المعاصرة فهي تعبير عن حالة الاندهاش والصدمة إزاء الآخر، هي سمة تشكّك في التراث والحداثة، مما جعل الفكر الإسلامي أمام تحدٍّ مزدوج، فهو من جهة مطالب بإعادة مستمرة لقراءة الدين وتراثه الذي خلفه المسلمون ومواجهة الواقع من جهة أخرى. ومن ثمة يقع الإحياء مقابل السكون والموت من هدي الآية الكريمة {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأنعام 122) “والدفاع في منطق القرآن عن الحياة والإحياء عبادة من قتل على طريقها هو الحي الحقيقي” {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} “وهذا هدف سار عليه رجال الإسلام العظام كالإمام الحسين (ع) حينما قال: إن أهل الكوفة كتبوا إليَّ يسألونني أن أقدم عليهم لما رجوا من إحياء معالم الحق وإماتة البدع”.

لكن يبقى السؤال قائماً ما السبيل إلى التوفيق بين الثابت - الدين والمتغير - الواقع؟ ومن الحاكم في حال التعارض بين الاثنين؟

من المعلوم أن الفكر الإسلامي قد عرف موقفين من هذه المسألة متباينين موقف اعتبر الإسلام هو المرجعية المطلقة، في حين رأى الآخر إضفاء الأسماء التراثية والإسلامية على الأفكار والنظريات سبيلاً لإثبات الانتماء إلى الدين، غير أن الكاتب يرى في التجربة الإحيائية للإمام الخميني نموذجاً لقراءة النص ومنهجاً متكاملاً للتعاطي معه في جدل هذا الأخير مع الواقع حيث يتداخل الفقه والفلسفة وعلم الكلام والتصوف والعرفان، “فعرفان لا دور فيه للفلسفة والفقه هو عرفان بلا عقل ولا سلوك، كما أن الفلسفة بلا عرفان هي فلسفة بلا روح، بل وإن فقهاً بلا أخلاقيات وتنظرات وعرفان هو فقه قشري موؤود قبل أن يولد”.

“وبهذا أعلن الإحيائي الإسلامي الكبير الإمام الخميني عن أن هذه الوحدة التكاملية إنما نستهديها ونجدها في نص القرآن الكريم الذي يجب أن نقرأه على أساس التدبر لا على أساس المدرسيات اللغوية والبلاغية والكلامية... والتدبر هو المناخ الذي يتوالد فيه الإنسان في إنسانيته على صورة من كمال الإيابي والانتماء إلى ربه بكلام ربه”.

ووفقاً لنظرت الإسلام الإحيائي فإن منظومة الآيات القرآنية تجمع ما بين هو ديني وما هو دنيوي، وما آفة الفكر الإسلامي إلا ذلك الاختزال الذي حصره الفقه في التجربة الإسلامية في 500 آية فقط كما يقول الإمام الخميني، في حين أن نسبة الاجتماعيات في القرآن للآيات العبادية تتجاوز المائة مقابل واحد، كما نجد أن كتب الحديث التي تناولت عبادات الإنسان وواجباته تجاه ربه لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة كتب، أما الباقي (ما يناهز الخمسين كتاباً) تتعلق بالأمور الاجتماعية والاقتصادية والحقوق السياسية وتدبير المجتمع. إضافة إلى أن كل الأعمال العبادية تحمل في طياتها بعداً جماعياً. فيما يتعلق بالمدخل المنهجي لهذه الإحيائية فيكمل حسب الشهيد الصدر في التعاطي مع اللغة لا كمفردات جامدة وإنما كدلالات عن الفهم العرفي المتداول ونقل أسئلة الواقع وعرضها على القرآن والسنة ليستفيد العقل من جدلية النص والواقع، بين اللامتناهي والمحدود بين التابث والمرن والمتغير، “وهنا أدخلت في المدرسة الإحيائية جملة من المفردات والقواعد نذكر منها أولاً أن الثابت الديني فيه من المرونة ما يكفل -مع الحفاظ على أصل وجوده- الاستمرار والتجدد عبر تحقيبات الزمن ومقتضيات المكان”.

إن هذا التعديل في مفهومي قراءة النص والعلاقة بينه وبين الواقع أو القارئ، وضرورة إيلاء النهوض الحضاري ما كان في المشروع الإحيائي، وإضفاء طابع المرونة على المفهوم الثابت للخروج من مأزق ثنائية الثابت والمتحول؛ قد نجد صداه في مقدمات لمشاريع طموحة قصد تجديد الفكر الإسلامي على أساس المسؤولية الحضارية، كما نلمس ذلك مثلاً في مشروع (التبني الحضاري والتجديد الجذري) للباحث إدريس هاني، عندما يحدد مهمات هذا التبني والمتمثلة أولاً: في تمييز دقيق وحاسم بينما هو حضاري وثقافي، ثانياً: الانتقال من مستوى الخطاب الدعوي المرتكز على الخطاب الطبيعي -مع ضرورة استمراريته وتهذيبه واستدماجه ضمن النسق العام الخاضع لسياسة التبني الحضاري- إلى المستوى الحضاري، والدعوة الشمولية... وثمرة هذا الفصل المنهجي والمفهومي تتجلى في “كون التبني الثقافي غايته إحراز الحق في الوجود، بينما التبني الحضاري غايته السبق في الوجود... إن ما بين أيدي المسلمين اليوم من أفكار وتعاليم هو منجز من حيث كفايته لتحقيق المعذرية لدى المكلف الشرعي الشخصي، وليس المعذرية لدى المكلف الاجتماعي المعني بإعداد القوة والتفوق وخلافة الأرض على أسس أقوم”. من هنا وبالنسبة لمفهوم الثابت والمتحول يضيف المفكر إدريس هاني: “رأينا أن بعضاً من منتجي الخطاب الإسلامي، لا يفتؤون يذكرون بأن ثمة قسمين من الحقائق: الثابت والمتحول، وعلى الرغم من أن هذه المحاولة الالتفافية هي أيضاً مما قد أفاده هؤلاء من صلب النقاش الحاد، بعد أن حولوا العالم إلى ظواهر ثابتة لا حراك لها، فإن لم تكن الغاية من الاعتراف بثنائية الثابت والمتحول، فتح المجال أمام المتحول -العرضي والمكروه والاستثنائي في هذا الخطاب- بل كان الهدف من ذلك، التنفيس عن فكرة الثبات التي بات واضحاً أنها فكرة تنتمي إلى عالم ما قبل قانون القصور الذاتي، أي الميكانيكا النيوتونية، وما قبل الثورات العلمية التي جاءت مفعمة بالأفكار والمفاهيم الحركية النسبية، وهذا ما يدل عليه واقع الثنائية المذكورة حيث لم يتعاطوا معها تعاطياً جدلياً... كل هذا جعل من الفكر الإسلامي المعاصر واحداً من أكبر حراس الثبات. ما جعله اليوم يلحق بفكر آباء الكنيسة اليونان واللاتينيين من أوسع الأبواب، أولئك الذين قامت ضدهم ثورة التحرر والعلم والتقدم في الغرب... لقد عبرنا على إصرارنا على أننا مدينون إلى ذلك الحكيم الذي مر كطيف باهت في تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية إلى حدٍّ قلَّ ذكر اسمه، وهو من غار بالقول الفلسفي “ما بعد الرشدي غوراً لم تجد له نظيراً في الأول والآن، أعني ملا صدرا الشيرازي مبدع الحركة الجوهرية (...) كان قد نسف أشرفية الثابت وخسة المتحرك، إن الأعراض إن تتحرك، تتحرك بالجوهر، فالحركة العرضية هي من جنس مقولاتها، أي أنها حركة عرضية، لكنها في الجوهر، حركة جوهرية، وما وقوعها في الأعراض إلا تجلٍّ للحركة الجوهرية... ونحن في سياق أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري نراهن على هذا المفهوم في حل مثنوية الثابت والمتحول... إن أطروحة التبني الحضاري والتجديد الجذري لا تؤمن بالثابت المطلق والشامل، ولا بثنائية الثابت والمتحول، بل إنها تؤمن بفكرة الثابت المتحول”.

تناول الشيخ شفيق جرادي في الفصل السابع لغة الظاهرة الدينية لخصوصية اصطلاحاتها كمقدمة منهجية لدراسة الدين من داخل منظومة لا من الخارج، فاستهله بتعريف للغة ومعناها وأنواعها التي تتفرع إلى لغة القول، والكتابة والكلام، ولغة العقل، ثم ما هي المرجعيات التي اعتمدت في وضع الكلام العربي، ثم عرج الكاتب على المناهج الحديثة أو المعاصرة في دراسة مبحث اللغة ليخلص إلى أن محاولات تفسير لغة الدين قد سقطت أسيرة لخلط منهجي بين لغة الظاهرة الدينية ولغة الدين، تتعلق بالكلام الصادر عن الله سبحانه أو المنسوب إليه تعالى بشكل مباشر، بينما تعبر لغة الظاهرة الدينية عن التجربة الفردية أو الجماعية لما تتضمنه سمات بشرية وثقافية بحتة لاعتمادها على رسوم وصيغ تصورات ذهنية، ويقيس الكاتب اللغة الدينية إلى ثلاث مستويات، لغة كلام الدين، ولغة الكتب الدينية، ولغة الظاهرة الدينية.

وكما التساؤل عن أي لغة نتحدث وأي مستوى من اللغة الدينية نعتبر، فإن التساؤل ينسحب إلى الوحي، عن أي وحي نتحدث؟ وهو مسار الفصل الثامن والأخير في الكتاب الذي حاول الكاتب فيه رصد مفهومي الوحي والكلمة في الفكر الإسلامي المعاصر.

ففي الآيات تتراوح كلمة الوحي ما بين مفهوم الإشارة والأمر والمفعول أي الشيء الموحى به، أما الوحي الذي نحن بصدده فهو الوحي الرسالي الذي يأخذ ثلاث صور هي: إلقاء في القلب ونفث في الروح، تكليم من وراء حجاب، وإرسال ملك إلى النبي ليبلغه إما عياناً أو سماعاً.

أما مضمون النقد فقد انقسم إلى ثلاثة اتجاهات: اتجاه يرى أن الوحي هو شرح للخطوط العامة للرسالة ولأصول التوحيد والنبوة والمعاد. وهو المتمثل في القرآن والسنة، إذ إن آيات القرآن، في خلاصة عالم التكوين، أما الاتجاه الثاني فيتميز بانطلاقة من الواقع إلى النص مما يجعله في مقابل الاتجاه الأول وهو ما جعل البعض يتحدث عن وحدة الوحي والكون المتحرك أو الكتاب المنظور الكتاب المسطور والتي عمد أصحابها من منادي أسلمة المعرفة إلى فك الارتباط بين الإنجازات العلمية والإحالات الفلسفية الوضعية، “إلا أن هذا الاتجاه سيجعل كل معرفة بشرية تندرج في إطار الوحي، وهكذا تتحول الجدلية بين ما هو ثابت من لفظ الوحي وسكون الطبيعة المتحاكيان بالأدوات البشرية المعرفية، وهو ما يفرض العجب إذ كيف يمكن لثابت أن ينتج معرفة متحركة، وهي -أي المعرفة المتحركة- ميزة كل نتاج معرفي سيال ومتطور ومتغير”.

أما الاتجاه الثالث فقد نحا منحىً إطلاقياً في تعاطيه مع الوحي، معتبراً مع ذلك وجود بعدين في الوحي، الأول خاص بالعالم، والآخر في العالم الآخر، لذا فإن العلم العلوي عندما ينزل إلى هذا العالم السفلي يصبح عرضة للنواقص مما يستدعي إجراء نقد مستمر لمعارفنا المتعلقة بالوحي طالما أنه متجه إلى إنسان يعيش في وسط محكوم بإكراهات الطقوس، والتقاليد قد تؤثر في خطاب الوحي دون روحه.

في الختام يمكن القول: إن الكاتب الشيخ الأستاذ شفيق جرادي، كان بهذا العمل قد قدّم محاولة جادة وإرهاصاً تحفيزياً لتجديد القراءة الدينية، ومعالم في طريق فلسفة الدين، لتنضاف إلى مثيلاتها من الدراسات الأخرى التي عُنيت خصوصاً بمناهج الدراسات الدينية.