هذا الكتاب

قد يستغرب القارئ للوهلة الأولى أن أجمع في عنوان واحد بين حالتين: إحداهما غلب على العقول أنها تَخصُّ الغرْب وحدهم، دالَّةً على تقدّمهم وقوتهم، وهي "الحداثة"؛ والثانية تَقرَّر في الأذهان أنها تَخصُّ العرب والمسلمين وأمثالهم، شاهدة على تأخرهم وضعفهم، وهي "المقاومة"، حتى إنه قد يسبق إلى الفهم من الترتيب الذي جاء عليه هذا العنوان أن الحداثة، على وجه العموم، تلاقى نوعا من المقاومة؛ بل قد يظن بعضهم أن الحداثة، التي كانت سبباً في تقدُّم الغرب وقوته، تلقى من العرب والمسلمين مقاومة صريحة، وكأنهم يُصرّون على البقاء في حال التأخر والضعف.
لكن استغراب القارئ لا يلبث أن يزول، حين يتبّين أني لا أَسلّم بكل ما ساد به الاعتقاد بصدد الحداثة، وأنَّ أكثر مَن نظر فيها خلَط بين ما ينزل منها منزلة اللُّب، فيجب حفظه، وما ينزل منها منزلة القشور، فيجوز تركه؛ ولئن جاز التساهل في هذا الخلط مع المؤسسين الأوربيين الذين غلب عليهم الانكفاء على الذات، فإنه لا يجوز مع أولئك الذين يلاحظون الفروق الثقافية والحضارية بين الأمم، ويقولون بضرورة اعتبارها في التعامل معها.
ويأتي، على رأس العناصر التي تشكل لُبَّ الحداثة، فعل "الإبداع"، مع العلم بأن الفعل لا يكون إبداعا، حتى يرتقي بالإنسان درجة؛ أما إذا نزل به إلى رتبة دنيا، فلا يكون إبداعا، وإنما ابتداعا؛ لذا، تراني أجعل من حصول الإبداع الشرط الضروري في التحقق بالحداثة؛ فلا يتصف بالحداثة إلا من أبدع، ويكون وصفه بها على قدر إبداعه؛ بل إني أذهب إلى أبعد من هذا، فأجعل الإبداع شرطا كافيا للتحقق بالحداثة: فحيثما وُجد الإبداع، فثمة حداثة؛ فلو فرضنا أن هناك مقاومة ثبَتَ إتيانها بأفعال مبدعة، لزم أن نعتبرها سلوكا حداثيا، حتى ولو كانت مقاومة للحداثة نفسها، إذ تكون عندئذ مقاومةً لِما علِق بالحداثة من مظاهر أو قِيَم تضر بالإنسان، طلبا للخروج إلى حداثة أفضل.
فما الظن إذا كانت هذه المقاومة تتصدى للعوائق الوجودية التي تمنع الأمة من إنشاء حداثتها، كالاحتلال والهيمنة والتبعية والاستبداد واحتكار السلطة والظلم الاجتماعي! فما من شك أن المقاومة التي يكون مقصدها بالأساس هو استعادة الأمة لقدرتها على الإبداع، تحتاج إلى أن تُبدع في الوسائل التي توصّلها إلى تحقيق هذا المقصد؛ وعلى قدر إبداعها في هذه الوسائل، يكون حظ الأمة من استرجاع هذه القدرة المفقودة.
وغير خافٍ أن هذا هو حال المقاومة الإسلامية في لبنان؛ فلقد حقَّقت بانتصارها على المحتل تحوُّلا وجوديا في الأمة نَقلها من طور العجز إلى طور القدرة، مُمِدّا لها بالأسباب التي تعيد بها إثبات ذاتها وإطلاق حركتها في العالم؛ وإذا كان الأمر كذلك، لزم أن تنتمي أفعال المقاومين إلى الحداثة كما تنتمي إليها أفعال غيرهم من الغربيين؛ وما ذاك إلا لأن الحداثة ليس لها قانون واحد في التطبيق، نظرا لأن الإبداع ليس له طريق واحد في الظهور؛ فقد تُبدع أمة في جانب لا تقدر أن تُبدع فيه أخرى، فتأتيها حداثتها من هذا الجانب، بل قد تُبدع في جانب هو نقيض الجانب الذي تُبدع فيه الأخرى، فتَدخُل الحداثةَ من حيث تخرج هذه منها، وتخرج منها من حيث تدخلها.
وهذا بالذات ما فعلته المقاومة الإسلامية؛ فقد فتحت للأمة طريق الحداثة من جهة ليست هي الجهة التي اتخذها "النهضويون" و"الأنواريون" و"الثوريون" في الغرب؛ فإذا كان هؤلاء قد أبدعوا في قطع الصلة بالقيم الموروثة، طالبين التحرر من أنفسهم، فإن المقاومين أبدعوا في التصدي للاحتلال، طالبين التحرر من عدوهم؛ بل إن المقاومة فتحت هذا الطريق من جهة تخالف الجهة التي انطلق منها هؤلاء؛ فهم قد خاصموا الدين أيما خصام، واعتبروه ظلمات لا تُنال الحداثة إلا بالخروج منها، ناسبين إليه من المساوئ والآفات ما حقُّه أن يُنسب إلى تصرُّفات رجال الكنيسة، فكان صريحُ علمانيتهم هو مدخلهم إلى الحداثة؛ بينما أخلص المقاومون في دينهم أيما إخلاص، واعتبروه النور الذي لا تنهض الأمة إلا بالاهتداء به، دافعين عن ذمة الدين المساوئ والآفات التي لحقت تصرفات الحكام، فكان صحيحُ تديُّنهم هو مدخلهم إلى الحداثة.
ولم تكتف المقاومة الإسلامية بأن تفتح للأمة باب الحداثة، بل أنزلتها رتبة منها لم تَنزلها مع حركات التجديد الإسلامي السابقة، إذ أنها أعادت للدين وظيفته المتكاملة ولقِيَمِه أبعادَها المتفاعلة، مرتقية بالوعي الديني بما لم ترتقِ به هذه الحركات، فأمكنها الإمساك بالروح الإبداعية المبثوثة في الدين، مستأنفة مسيرة الأمة في العطاء ومنطلقة بها إلى أفق حداثة إسلامية ثانية.