هذا الكتاب

هنري كوربان من المستشرقين الموسوعيين الذين أثروا حقول المعرفة الإنسانية والعربية الإسلامية بعدد كبير من الدراسات والبحوث (له أكثر من 300 مقال وبحث علمي، بالإضافة إلى عشرين كتاباً وتأليفاً وتحقيقاً) جزء كبير من هذه الكتابات خصصه للعلوم الإسلامية خصوصاً التصوف والفلسفة.

تكريماً لجهود هذا المستشرق واعترافاً بما قدمه للتراث العربي الإسلامي، نظم معهد الدراسات الإسلامي للمعارف الحكمية في بيروت، بالتعاون مع معهد الدراسات الإسلامية في جامعة القديس يوسف، ومعهد ephe للعلوم الدينية، ومؤسسة حكمة وفلسفة في طهران، ندوة تحت عنوان: (هنري كوربان: حواريات الروح والدين) وذلك في بيروت في الأول من أيار (مايو) 2003م.

انطلقت أعمال الندوة بكلمة رئيس المعهد الشيخ شفيق جرادي، الذي تحدث عن أهمية المفكر والفيلسوف الفرنسي هنري كوربان الذي كان له فضل السبق في خوض رحلة علمية روحية طويلة بين بلاد الأناضول وفارس، مستجلياً فيها (الأنوار الاسفهبدية) عند شيخ الإشراق السهروردي، كما عمل على إخراج الحكمة المتعالية والتعبير عنها بلغة أفادت كل من قرأها غرباً وشرقاً، بعدما كانت مطمورة بين طيات الأوراق الصفراء.

وقد كان لهنري كوربان – كما يقول الشيخ جرادي – في ذلك كله منهجه الذي يقرأ على أساسه، وإشكالاته التي أثارها، كما موضوعاته ونتائجها التي استخلصها، وعلى أساسها جاء من قال عنه أنه توفيقي بين اللاهوت المسيحي وفلسفة الدين الإسلامي، ومنهم من اعتبره مجرد ناقل، في قبال من ذهب للحديث عن إبداعه، وفيهم من صوره كحلقة في الاستشراق، في قبال من قال بإخلاصه وتحوله الروحي والعقيدي…

إن كل ذلك – يقول الشيخ جرادي – يدعونا أن نلتزم الحوار المعرفي العميق، في زمن بات فيه الحوار ضرورة للتعبير عن الموقف الإنساني في مواجهة العصبيات الفكرية والفلسفية، ولكل ذلك - يضيف الشيخ جرادي - جئنا إلى فلسفة كوربان لنرى مدى إمكانية التصافح والتصالح بين منهج الغرب وعقل الشرق، بين نفعية الرصد الفكري، وروح الضمير المنبسط بأجنحة النور والحكمة المتعالية…

في الجلسة الأولى تحدث د. بولس الخوري عن: (الإمام والمسيح عند هنري كوربان)، قبل أن يعرض الباحث أوجه الشبه والاختلاف بين الإمام والمسيح في الفكرين الإسلامي الشيعي والمسيحي، تحدث عن موقع الإمام في الفكر الإسلامي ووظيفته. فالشريعة التي جاء بها النبي تتميز بأن لها معنيي، معنىً ظاهري وآخر باطني، وبما أن النبي يرحل بعد فترة فإن الإمام يكون مؤتمناً على المعنى الباطني، فوظيفته إذن هي تأويل الكتاب وكشف معانيه الباطنية. أما كيفية تلقي المعرفة والقدرة على التفسير والتأويل، فالنبي يقوم بذلك من خلال الوحي ورؤية الملاك، بينما الإمام يقوم بذلك من خلال الإلهام والكشف المعنوي، والخلاصة التي يتوصل إليها الباحث أن كلاً من النبي والإمام يعتبر شكلاً من أشكال تجلي النور الواحد.

بعد ذلك شرع الباحث في عقد المقارنة بين الإمام والمسيح، فأكد في البداية عدم وجود كهنوت في الإسلام يمتلك (وسائل النعمة) وسلطة التعليم كما هو الحال في المسيحية، لكن هناك نقاط تلاقٍ تتوافق فيها المسيحية اليهودية مع الإمامية، كما في قضية الخلاص الذي لا يأتي من خلال موت المسيح، بل من خلال الانتظار والانتصار المَعادي.. ويرى كوربان أن الكائنات النورانية والذين هم النبي وابنته والأئمة الاثنا عشر هم تجليات إلهية وليسوا تجسيداً للألوهة، وهذا فرق أساسي بين التصور الشيعي للإمام والتصور المسيحي للمسيح… وإذا كانت وظيفة الإمام تشبه وظيفة المسيح، فذلك يصح في سياق مسيحانية ملائكية كما قالت بها المسيحية الأصلية.

وفي معرض حديثه عن الإمام الثاني عشر يقول كوربان: إن معنى عودته في آخر الزمان يقارب قول المسيحية المَعادية في جسد المسيح الروحي والخلاصة فما يقارب بين الإمام والمسيح قد يكون مفهوم التجلي، أما ما يباعد بينهما فهو مفهوم التجسد. وقد أثارت هذه الآراء ردود فعل قوية حيث قدمت إثرها مداخلات عدة للرد عليها، كما عقب على الورقة الشيخ حسن بدران والأستاذ جهاد سعد.

في الجلسة الثانية تحدث د. بيار لوري عن: (هنري كوربان والسيمياء الروحانية)، في البداية قام الباحث بتتبع مراحل تطور علم السيمياء، فأكد أنه ولد في مصر نحو سنة 200 ق.م، في المحيط المعرفي والفلسفي الناطق باللغة اليونانية، ثم استقبل العالم العربي - الإسلامي السيمياء في وقت مبكر منذ بداية القرن الأول الهجري (8 - 9 للميلاد) وكانت معظم الأعمال منسوبة إلى كتاب يونانيين، بالإضافة إلى الأعمال التي نسبت إلى متصوفة مسلمين، وشخصيات إسلامية لعبت دوراً محورياً مثل الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وتلميذه جابر بن حيان والأمير خالد بن يزيد، أما أوروبا اللاتينية فقد عرفت السيمياء ابتداءً من القرن 12 مع ترجمة النصوص العربية، ومن ثم انتشرت بشكل متسلسل كحقيقة بديهية.

والحديث عن السيمياء عند المفكرين المسلمين يعني ظاهرياً القيام بعدة عمليات مخبرية تؤدي إلى استخراج الذهب من المعادن الخسيسة كالزئبق، لكن الموضوع أكثر اتساعاً، لأنه يتحول عن طريق عدد من المعارف الباطنية إلى معرفة مجردة تمكن من معرفة الكون معرفة عميقة، أما بخصوص موقف كوربان من السيمياء فقد كتب: لدينا هنا علم للمعادن ودراسة الكريستال وعلم النبات، وهذه الأشياء وضعت للدراسة كمرايا.. والأشخاص التابعون للعناصر الثلاث (النبات والحيوان والجماد) هم مرايا حيث يتمظهر بشكل مرئي العالم الداخلي… ويضيف كوربان: من دون فائدة أن نكسر المرآة لنرى ما في داخلها..).

لقد اهتم كوربان بالجانب الباطني ودور المخيلة في عملياتها، والسيمياء لديه عملية وسيطة على كل المواد مثل التأويل العملي المتمثل رمزياً بتأويل النص. وإن السيمياء عمل تطبيقي، إنه تفسير وبامتياز من هذا التأويل الروحي.. ولشرح هذا الواقع اعتمد كوربان - حسب الباحث -ثلاثة مستويات: 1- السيمياء كوسيط تأملي. 2- السيمياء كعلم نبوي. 3- السيمياء كطريق لاكتشاف شخص.

وقد عقب على هذه الورقة د. طراد حمادة والأستاذ أحمد ماجد.

في الجلسة الأخيرة التي عقدت بعد العصر ألقى د. أحمد أعواني بحثاً بعنوان: (فلسفة التشيع) تحدث فيه عن مفهوم الإمامة وكيف عالجه هنري كوربان، فأشار في البداية إلى أن نظرية الوجود عند كوربان ترى أن الوجود يبدأ من الخالق تعالى ثم يتنزل أمر الوجود حتى ينتهي إلى الإنسان، ومن ثم تبدأ حلقات ومراتب الترقي حتى يصل الإنسان إلى قمة الكمال، فيصبح كاملاً. أما بخصوص الإمام فهو حامل الأمانة الإلهية المتمثلة بالولاية، والتي تحتضن الأسرار الإلهية والعلوم الباطنية للنبوة، وعلم الأئمة لم يحصلوه عن طريق الدراسة وإنما أخذوه عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ولهذا كانوا أولياء الله وخلفاء رسوله، وقد بحث كوربان العلاقة بين النبوة والولاية، فتوصل إلى أن النبي التام هو من كانت لديه (الرسالة والنبوة والولاية) ويليه النبي الجامع بين النبوة والولاية، ثم الولي، وقد حلل كوربان مفهوم الولاية وقارنه ببعض المفاهيم في الفلسفة الفرنسية، ليصل في نهاية المطاف إلى أن الولي والنبي والرسول هم حجج الله سبحانه وتعالى على الأرض، وإذا كانت النبوة قد ختمت فحجة الله سبحانه وتعالى لم تختم، إنما بقيت فاعلة من خلال الولاية، وأخيراً يرى كوربان أنه: (من المستحيل أن تبقى الأرض خالية من الحجة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي هو ضمان الله في أرضه ومجيباً عنه تجاه الناس حتى يتقربوا إليه…).

وقد عقب على هذه الورقة د. حبيب فياض.