هذا الكتاب
هذا البحث عزيزي القارئ يحمل عنوان " النهوض الحضاري في فكر الإمام الصدر " .
بدت فكرة النهوض الحضاري لدى الشعوب الاسلامية والعربية، شديدة الارتباط بالارتطام الحضاري لشعوب المنطقة مع الغرب في بداية القرن التاسع عشر. أي منذ بداية عهود الاستعمار، حيث كان الغرب قد أنهى مرحلة مظلمة من الإقطاع وسيطرة الكنيسة، بعدما عرف نهضة فكرية وصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ليتجه نحو الخارج بالاعتماد على المعطى الحضاري الناجز، ميماً وجهه نحو القارة الأفريقية والقارة الآسيوية وساعياً نحو نهب مواردهما واعتمادهما كأسواق لمنتجاته الصناعية مستنداً على تبريرات أخلاقية قوامها تعميم النموذج الحضاري الغربي بوصف الحضارة معطى إنسانياً عاماً وتستند الى سياق تطوري صاعد لا يلبث أن يعم أرجاء المعمورة.
ومنذ ذلك الحين، ساد لدى شعوب المنطقة الشعور والاحساس بالتفارق الحضاري وانعدام الوزن والجمود، الناتج عن طبيعة هذا الارتطام الذي تجسد لمصلحة الخصم الجديد. وقد برزت انذاك اتجاهات انطوت على منطلقات علمانية أو إسلامية، حاولت تقديم اجابات حول الإشكالية الحضارية قوامها الإجابة عن سؤال محوري، ما العمل لأجل اللحاق بركب الحضارة واعادة النهوض لنفض الجمود والانعتاق من حالة التخلف والضعف. وقد تنوعت الإجابات واختلفت منذ مطلع القرن العشرين بين تيارات ثلاث، الأصالة والمعاصرة والتوفيق. دعت الأولى للأخذ أو السير بركاب الغرب عن طريق محاكاة النموذج كما هو، وأخرى دعت إلى رفض الغرب والاستناد على المعطى الاجتماعي والتاريخي، فيما سعى التيار الثالث الى التوفيق بينهما.
ومنذ الخمسينات في القرن العشرين، عمدت الحركات التحررية القومية والاشتراكية، الى مناهضة الاستعمار، وأرست كياناتها القطرية بعد مرحلة الاستقلال، بالاستناد الى علمنة الدولة في نظام الحكم ووعدت بتحقيق الوحدة، والتنمية، لاستكمال نموذج النهوض بالأمة ولكن بعدما كشف أكثر من عقدين من الزمن من عجزها بتحقيق وعودها في الحرية والتنمية والوحدة، برزت الحركات الإحيائية الإسلامية، داعية لإقامة نموذجها الإسلامي في الحكم. وحدد بعضها أطر العلاقة مع الغرب عبر تقسيم المعمورة الى دار الإسلام ودار الحرب. وطرحت الاسلام بوصفه ديانة عالمية تستوجب التصميم سواء عن طريق الجهاد، أو الحكمة والموعظة الحسنة. ومع تنامي دور الحركات الإحيائية، تبرز هذه الحركات بوصفها تحمل نموذجاً حضارياً عالمياً، مقابل عالمية الحضارة الاوروبية. في حين إن هذه الحركات ما زالت تواجه الكيانات القطرية عبر السعي نحو القبض على زمام السلطة على اساس حاكمية الاسلام وتطبيق الشريعة، كقاعدة للنهوض نحو ترسيخ نموذج الإسلام على مستوى الأمة والعالم.
وأحد أبرز هذه التعقيدات، مواجهتها لجملة من الأسئلة حول تطبيق الحاكمية والشريعية في منطقة شديدة التنوع الديني وأن عامل الدين يؤدي إلا الى الإحساس بوحدة الهوية، في حين أن الدعوات العلمانية المستندة الى اللغة، أو الى الجغرافيا في تكوين هوية الأمة، من شأنه أن يوفر للتنوعات الدينية والإثنية الاحساس بوحدة الإنتماء الى الارض والوطن. ولا بد والحال كذلك، من إحساس الفرد من منظور الدعوة الى علمنة السلطة، بانه مواطن يتمتع بحقوق وواجبات تتجاوز حدود الانتماء الديني أو الإثني.
ورغم
أن هذه الدعوات بقيت في العالم العربي أسيرة الأطر النظرية غير أنها بلا شك تقف
بمواجهة النموذج الديني كمتخيل ينحو به حملته ورواده نحو التحقق العملي في ميدان
الواقع.
اشكالية الموضوع
بالاستناد الى ما تقدم، تبرز المشكلة على أنها ترتكز الى أبعاد نهضوية، بعضها تحمل
منطلقات علمانية، وأخرى إسلامية، في دوائر تطال الكيانات الموجودة، ثم الأمة،
فالعالم. وبلا شك فما هو مطروح هو إشكالية سجالية مقرونة الى تباين المنطلقات بين
تيارات النهوض الوطني والحضاري، وهي مقرونة الى الواقع بتداعياته المحلية والعالمية
في علاقات الشعوب مع نفسها، وعلاقاتها مع المحيط، ومع المكوّن الحضاري العالمي الذي
بات مطروحاً بنموذجه الكوني أكثر من أي وقت مضى.
وبالاستناد الى البعد السجالي الذي يشكل الإيمان الديني أحد ابعاده، فإن ثمة محاولة
فعلية لاستكشاف دور الايمان الديني انطلاقاً من مفهوم الامام الصدر، والتساؤل هل
الايمان الديني يلعب دوراً حضارياً نهضوياً في بلد متعدد الطوائف كلبنان أم يؤدي
الى تكريس التمايز الديني والطائفي بما يجعل امكانية العيش المشترك وتكوين هوية
وطنية امراً مستبعداً؟
كيف
يلعب الايمان الديني دوراً نهضوياً يتخطى حدود الجغرافيا الوطنية الى حدود الأمة
والعالم سيما وأن الايمان الديني كما هو مطروح، يبقى مستنداً الى التمازج بين
الايمان كشأن فردي وانعكاس هذا البعد في الاطار المؤسساتي للدولة، ويقدم نفسه على
أنه نموذجاً عالمياً في عالم يضج بالتناقضات.
كيف يؤدي الايمان الديني كما يفهمه الامام الصدر دوره النهضوي سيما وأن الأديان
ليست واحدة. وبالتالي فإن الدين الواحد مفتوح على تعدد الطوائف اذ كيف يستطيع الخاص
ان يصبح عاماً من الاحتفاظ بخصوصيته كمصدر لوجوده النوعي؟
مسوغات البحث
قد توحي اشكالية النهوض الحضاري بأن ثمة ما بشبه التكرار في طرق باب هذه الاشكالية
على مدى عقود من الزمن، أو أنهها تبدو قليلة الاهمية في عالم يتجه نحو التماهي
الحضاري بين مكوناته وشعوبه وأممه.
غير أنه من ناحية اخرى نجد أن الموضوع لا يخلو من أهمية كبيرة تستمد مسوغاتها من
الامور التالية:
1. ان تاريخية الموضوع المطروح تؤكد أهمية حضوره التاريخي كإشكالية ما زالت تنتظر
الكثير من المساهمات لرجال الفكر ورواد النهضة، وإن الاستناد الى نظرة ورؤية الامام
الصدر يشكّل مادة هامة للكشف عن إحدى هذه الاسهامات التي ينبغي إماطه اللثام عنها
توخياً للفائدة.
2. إن الموضوع يستمد أهميته من راهنيته ومعاصرته لما هو مطروح على النحو العالمي
واتجاه العالم نحو التكوكب في منظومة واحدة وتستوجب تحديد موقع الإيمان الديني
منها.
3. إن ثمة أهمية كبيرة ان يسعى البحث عبر المقاربة والتحليل لرؤية الامام من موقعه
الديني للنهوض الحضاري بمستويات الوطنية العامة، تكمن في استكشاف كيفية الانتقال من
الخاص الطائفي الى العام الديني في الدين الواحد ثم الى العام الديني الذي يتجلى
بالأديان على تنوعاتها واستلهام الوحدة الايمانية وتجسيدها كمكون يدعو نحو النهوض
والتعايش والتلاقي الحضاري وليس الجمود والتفارق والتباعد.